fbpx

“عهد الأمان” لسنة 1857 ودستور 1861: قراءة في الدوافع والأسباب الداخلية والخارجية والمآلات

عهد الأمان ودستور 1861

لقد مثل احتلال فرنسا للجزائر سنة 1830 الصدمة الكبرى في الأوساط الرسمية والشعبية والنخب المثقفة واعتبروا ذلك بمثابة التهديد لهم بضم تونس إلى الجزائر، وكان هذا الاحتلال والتفوق العسكري والمدني الفرنسي في نفس الوقت ناقوسا ينذر بصعود نجم الحضارة الأوروبية ونهضتها العلمية والتقنية التي فاقت خيال العرب والترك في تلك الفترة.

وكانت زيارة أحمد باي (1806 – 1855) لفرنسا سنة 1846 السبب المباشر في انبهار هذا الأخير بمظاهر التمدن والعمران والحضارة للفرنسيين فقرر استنساخ تلك الحضارة إلى تونس عبر تحديث الجيش واستحداث مؤسسات دستورية وتعليمية على شاكلة المؤسسات الفرنسية. إضافة لكون هذا الباي كانت له طموحات استقلالية عن “دولة الخلافة” في إستنبول بعد أن شعر بضعف الجيش العثماني بعد هزائمه المتتالية في الحروب مع روسيا منذ 1774 إلى 1829 فقرر التعويل على نفسه بإحداث جيش نظامي قوي يحمي بلاده من أطماع الفرنسيين وتبعيته للأتراك.

وقابل هذا الطموح لدى أحمد باي تطابق في روى المثقفين والعلماء والمصلحين وعلى رأسهم الشيخ محمود قبادو وسالم بوحاجب ومحمد بيرم الخامس ومحمد السنوسي والوزير المصلح خير الدين والجنرالان حسين ورستم الذين مهدوا للباي الطريق وساعدوه على خوض معركة الإصلاح، ولئن كانت دوافع العلماء والمثقفين ليست كدوافع السياسيين (الباي وحواشيه) ولكنها تلتقي كلها حول هدف واحد وهو كسر الجمود والأخذ بأسباب النهوض.

الجاليات الأجنبية المقيمة بتونس

بدأت الجاليات في التواجد السريع منذ أوائل القرن 19 وأقدم تلك الجاليات كانت تنحدر من أرقّاء أوروبيين أعتقوا أو من مغامرين حلوا بالبلاد وهدفهم الثروة من خلال عملهم في خدمة البايات، هذا وقد كان عددهم سنة 1834 ثمانية آلاف وفي سنة 1856 وصل عددهم إلى 12 ألفا ثم في سنة 1870 زادوا عن 16 ألفا موزعين على النحو التالي: 8100 إيطالي فيهم 1100 يهودي و7000 مالطي و819 فرنسي و200 يوناني[1] كان أكثرهم يعمل في التجارة وخاصة التجارة الخارجية وفي الصناعات كانوا مسيطرين على عصر وبيع الزيوت وصناعة الأحذية والحدادة، وبعض منهم في أعمال الطب والتعليم والهندسة والإدارة وكان أكثرهم يقطن مدينة تونس العاصمة وصفاقس والمدن الساحلية وكان لهم في تلك المدن أحياء خاصة بهم، وفي العاصمة كان باب البحر مركزا لهم.

الأسباب المباشرة لصدور “عهد الأمان”

كما كانت التسمية “عهد الأمان”، جاء هذا العهد كتتويج لمعركة الإصلاح الداخلية التي خاضها المصلحون (لاقتناعهم بالأخذ بأسباب النهوض) وبعد ضغوطات خارجية على مْحمد باي (خليفة أحمد باي الذي توفي سنة 1855) من قبل قنصلي فرنسا وبريطانيا على إثر حادثة اليهودي الشهيرة، حيث عمد أحد يهود تونس المدعوم من قبل كبير احبار اليهود ومسؤول خزينة الدولة نسيم شماتة، عمد على سب وشتم تونسي مسلم وسب دينه وهو في حالة سكر فقضى الباي على اليهودي بأن يحال على المحاكم الشرعية المالكية (والمعتاد أن يحاكم في مثل هذه القضايا على المحاكم الحنفية التابعة لمذهب الباي)  وذلك لتشدد المحاكم المالكية في مثل هذه القضايا فحُكم على اليهودي بالإعدام ونفذ الحكم في نفس اليوم فذعر اليهود من هذه الحادثة وحركوا حلفائهم من الدول وممثليهم وخاصة ممثلا فرنسا وإنجلترا في تونس.

ولم تكتف فرنسا وإنجلترا بإرسال قناصلها للباي للاحتجاج في اليوم الموالي على إعدام اليهودي وإنما أرسلت هاته الدولتان أسطولهما على سواحل تونس (أسطول فرنسا أرسى في ميناء حلق الوادي وأسطول إنجلترا على سواحل مالطا) لتهديد الباي والطلب منه إصدار تعهد يحمي الرعايا الأوروبيين وأصحاب الديانات الأخرى ويضمن لهم محاكم مستقلة عن المحاكم الشرعية التونسية. وبعد انقضاء أسبوع من المشاورات تحت تهديد المدافع والأساطيل البحرية الفرنسية والإنجليزية قرر الباي ووزراءه وعلماء الدولة بأن يستصدر قانون “عهد الأمان” الذي كانت أكثر فصوله ومواده مستمدة من مبادئ دستورية وتنظيمية أملاها قنصل فرنسا على الباي، ومن فصوله مواده قانون الدولة العثمانية الإصلاحي والمعروف بـ “خطي شريف كلخانة” الذي صدر سنة 1839 وعمم على كل ولايات الدولة العثمانية.

بنود “عهد الأمان”

صدر عهد الأمان في 9 سبتمبر 1857 ويتألف من مقدمة و11 فصلا جاء فيه ما يضمن حقوق الجالية الأوروبية بمختلف أديانها وأن الذمي لا يجبر على تبديل دينه ولا يمنع من إجراء ما يلزم ديانته، ونص على تساوي الناس أمام القانون وخص بالتنصيص على التسوية بين المسلم وغير المسلم، وحدد الخدمة العسكرية بثماني سنوات بترتيب القرعة بين التونسيين ونص على بعث المجالس للنظر في الجنايات، وحدد مجلسا للتجارة يتكون من مسلمين وغيرهم وينسق مع الدول (الأوروبية) المجاورة وحرر التجارة بين مختلف الرعايا والدول ورخّص للأجانب حرية الدخول والاستقرار والتجارة والملكية للعقارات والأراضي بسائر البلاد التونسية.

وفي شهر سبتمبر من سنة 1858 وقع التخلي عن التضييقات التي كان اليهود في تونس ملزمين بها، وصدر أمر يسمح بمقتضاه لليهود بلباس الشاشية الحمراء التونسية والحال أنهم كانوا يُميَّزون في لباسهم عن المسلمين، وسمح لهم بشراء العقارات والأراضي الزراعية والعمل بها.

إصدار دستور 1861

بوفاة محمد باي سنة 1859 ومجي أخيه الصادق باي دشن هذا الأخير ولايته بالسفر للجزائر لمقابلة امبراطور فرنسا نابليون الثالث سنة 1860 ليطلعه على مشروع الدستور الذي يعتزم استصداره، ويذكر بيرم الابن خبرا منقولا عن الجنرال رستم الذي رافق الباي في الزيارة مفاده أن امبراطور فرنسا تظاهر أمام الباي باستحسانه لهذا الدستور ولكن عندما اختلى بقنصله لامه ووبّخه على تشجيعه للباي على مثل هذا الدستور وقال له “إن العرب إذا تأنسوا بالعدالة والحرية فلا راحة لنا معهم في الجزائر مطلقا”. وفي 21 جانفي 1861 صدر الدستور ليطبق مفاهيم بنود “عهد الأمان” وجُعل تاريخ 26 أفريل من نفس السنة هو تاريخ العمل بالدستور.

دسائس الوزير مصطفى خزندار

لقد كان الصادق باي مذبذبا ومضطرب في سياسته عديم التحمس للإصلاحات المتخذة من قبل سالفيه، غير انه سلك سبيل المسايرة والمهادنة للتيار الإصلاحي المتنفذ في أجهزة الدولة منذ عهد أحمد ومحمد باي وكان غير قادر على مقاومته، فكان بمعية وزيره مصطفى خزندار (الذي شغل منصب الوزير الأكبر 25 سنة إلى حد تاريخ عهد الأمان) ينتظرون الفرصة السانحة للتخلص من التيار الإصلاحي والتفرد بالحكم الشمولي بإيعاز من قناصل أوروبيين ورجال اعمال فاسدين ويهود متنفذين ومتحكمين في رؤوس الأموال.

بعد ذلك التوبيخ من نابليون اضطلع الوزير الأكبر مصطفي خزندار وبتحريض من القنصل الفرنسي بمهمة إقناع الباي بالعدول عن الدستور فبدأت المؤامرات والدسائس من قبل خزندار وفريقه تحاك ضد الفريق الإصلاحي (خير الدين ومن معه) للإطاحة بالدستور فجمع الوزير خزندار حلفاءه في الداخل والخارج واستقوى بمجلس الشورى الذي كان اغلب أعضائه معينين من قِبله واستغل ضعف شخصية الباي الذي كان ألعوبة طيعة في يده فأدخل قرارات فاسدة وظالمة جعلت من خير الدين (وزير البحرية ورئيس مجل الشورى) وفريقه يستقيلون من مناصبهم الواحد تلو الآخر سنة 1862 لكي لا يسقط السقف عليهم بعد أن يئسوا من إيقاف مفاسد الوزير المتنفذ ماليا والمدعوم خارجيا في أجهزة الدولة ويخلو له الجو.

وبعد أن تخلص خزندار من حمودة باي شقيق محمد باي (الرجل الوحيد الذي كان في مقدوره إيقاف مظالم الوزير) الذي مات موتة فجائية وحامت شكوك حول تسميم خزندار له، تتابعت القرارات المجحفة للوزير فأقنع الباي بمضاعفة المجبى (وهي ضريبة قيمتها 36 ريالا يدفعها كل فرد من الأهالي) ليردها 72 ريالا في مطلع سنة 1863 فكان ذلك السبب المباشر لاندلاع ثورة 1864 التي قادها علي بن غذاهم والتي اجتاحت كامل البلاد التونسية وكادت تعصف بالباي وعرشه لولا تدخل السفن التركية على السواحل وتراجع الباي عن قراراته الظالمة بعد أن أعطى الأمان لقائد الثورة ثم فيما بعد غدر بهم جميعا وقتل وعذب وسجن الكثيرين من الأهالي لم تذكر المراجع التاريخية عددهم ولكن الروايات تصف أعدادا كبيرة من الضحايا بعد انتشار الأوبئة والقتل والتعذيب في السجون والساحات.

إيقاف العمل بالدستور وعودة الحكم الشمولي

لقد استغل الوزير خزندار ثورة 1864 ليقنع الباي ومن حوله بإبطال العمل بالدستور والعودة للعمل بالمحاكم التابعة للباي فتهدم البنيان القانوني الذي شيده رجال الإصلاح بدافع الغيرة على بلدهم وتحقق حلم وهدف القنصل الفرنسي ولم يبق من تلك القوانين سوى المادة الأولى من “عهد الأمان” والتي تنص على تأكيد الأمان للرعايا الأوروبيين القاطنين بتونس وتضمن مصالحهم التشريعية والمالية والتجارية، وبذلك رجع الحكم في البلاد إلى الإطلاق والارتجال والفوضى وعدم الأمن في شيء والرشوة والسرقات والتعذيب والقتل إلى حد لم تشهد البلاد مثيلا له منذ قرون، وتسلطت أيادي خزندار على الأهالي بالسياط المؤدي للقتل وفرضت على الثائرين جباية الحرب وهي غرامة مالية يدفعها كل من اتهم بمساندة الثوار.

انعزال المفكرين ورجال الإصلاح

تكررت النوائب حتى سنة 1867 وسنة 1868 سنوات المجاعة وعمت الأوبئة، وفي هذه الخمس سنوات العجاف عمد المصلحون والمفكرون إلى انعزال السياسة لمراجعة أفكارهم وخططهم في الإصلاح وسلكوا طريق البحث والكتابة ليصلوا إلى عقول العامة بدل الاكتفاء بالإجراءات بدون اقتناع فكتب خير الدين كتابه “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك” بعد أن قرأ كتب الشرق والغرب[2] وغيرها من كتب المستشرقين والمصلحين المصريين والأتراك وكان خير الدين يتقن اللغات التركية والعربية والإيطالية والفرنسية.

وكتب بن أبي الضياف كتابه التاريخي الشهير “إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان وكتب محمد بيرم الخامس “صفوة الاعتبار بمستودع المصار والأقطار” واختار محمود قبادو أن يساير الباي في سياسته ومكث في مناصبه ولم يعتزل كغيره من رفاقه في الإصلاح.

إغراق البلاد في الديون

عمد مصطفى خزندار عبر تطويع الباي ولي ذراعه بالاستقواء بالخارج إلى الاستدانة من فرنسا وأنجلترا لتفادي النقص في الثروة نتيجة عزوف الأهالي عن العمل والإنتاج بعد وقف العمل بالدستور وعموم الفوضى والاستبداد والقتل والتنكيل فاستدان بما يقارب 480 مليون ريال من سنة 1863 إلى سنة 1869 أتلفها في أبهات القصر ومصالحه الشخصية ثم فر بمعظمها إلى فرنسا بعد أن تحصل على الجنسية الفرنسية كمكافئة له على صنيعه في موالاة القنصل الفرنسي في تونس وزاد من فرض الضرائب على الأهالي فباع الناس خيامهم وممتلكاتهم وعمد أصحاب رؤوس الأموال إلى تسليم أموالهم إلى اليهود لحمايتها فضاعت منهم. وظلت البلاد تراوح مكانها من جراء هذه الديون إلى أن دخل الاستعمار الفرنسي البلاد بموجب معاهدة “الحماية” لسنة 1881 والتي تقضي بتولي فرنسا حماية مصالحها وإرجاع أموالها وذلك بالتحكم في كل ثروات البلاد والعباد.

خلاصة

لقد جاء “عهد الأمان” ودستور 1861 كنتيجة حتمية لتطلع رجال الإصلاح إلى النهوض بواقع البلاد بعد صعود أوروبا حضاريا وعسكريا ولحماية بلدهم من تحرشات الأساطيل الفرنسية والإنجليزية وفي نفس الوقت استعملت الدول الغربية وفرنسا تحديدا هذه الموجة الإصلاحية لحماية مصالح الرعايا الأجانب واليهود في البلاد التونسية ولحماية مصالح رعياها التجارية والتحكم بمصادر الثروة والموانئ لضمان سيطرتها على الجزائر البلد الثاني لفرنسا.

وبعد أن حققت مآربها ومصالحها عمدت فرنسا (عن طريق عميلها خزندار) إلى فرض ضرائب مجحفة على الأهالي مما تسبب في ثورة استغلتها فرنسا والوزير العميل من أجل الترويح لفكرة العداء للإصلاحات ولمنهج التغيير لكي يضمنوا سيطرتهم على الثروة وعلى الحكم.

فكان “عهد الأمان” والدستور بمثابة النقمة على الأهالي لخدمة مصالح الطبقة الفاسدة في الحكم والمتنفذة في مصادر الثروة، وهو سلاح أراده المصلحون الصادقون في صالحهم لخدمة بلادهم وشعبهم فاستعمله العملاء والخونة والأعداء (فرنسا) لخدمة مصالحهم الاستعمارية ووجهوه ضد صدور الأبرياء من أبناء الشعب.

ولعل هذا المقال أريد من خلاله إعمال العقل فيما آلت إليه ثورة 2010 بعد إصدار دستور 2013 الذي بان بالكاشف أنه سلاح الضعفاء من أبناء الشعب الذين ثاروا لطلب العيش الكريم والثورة ضد الفساد والحيف فأدارته الأحزاب التي وصلت للحكم ضد هذا الشعب ليزيدوه فقرا واستعملوه لخدمة مصالحهم الحزبية ولتبرئة وحصانة الطبقات الفاسدة في الحكم والناهبة لثروات البلاد على مدى عقود.

المهدي بن حميدة
المعمورة في 14 أوت 2015


[1] La population européenne de Tunis au milieu du XIX siècle، Paris PUF 1960 p.44

[2]  فقرأ كل من كتاب الرحالة Marco Polo وكتاب Le Prince، l’art de la guerre (Nicolas Machiavel) وكتاب Les provinciales (Blaise Pascal) وكتاب Télémaque (François de Salignac) وكتب Montesquieu وVoltaire وJean-Jacques Rousseau (le contrat social)

المهدي بن حميدة

المهدي بن حميدة

العمر 55 سنة - متزوج وأب لثلاثة أطفال (بنتان وولد) - مقيم بسويسرا منذ 9 ماي 1992.
كاتب ومتابع للشأن السياسي والعربي والإسلامي - مدير شركة خاصة في الطباعة والتصميم والتوزيع.

أظهر كل المقالات