fbpx

الروضات القرآنية

عادت نبرة التهجم على الروضات القرآنية بعد عملية أمس، والتي أقدمت خلال هذه العملية (الغريبة على الشعب التونسي) فتاة في الثلاثين من العمر على تفجير نفسها أمام دورية أمنية وسط شارع الحبيب بورقيبة، والتي أدت لجرح 15 شخصا بين أمنيين ومدنيين ومقتل الفتاة المحجبة، والأكيد أن المتحمسين (بغباء وحسن نية) والمتجندين (ضمن مخططات وخلفيات) لهذه الحملة (على الروضات القرآنية) لهم نوايا ومقاصد غير التي سوف أتطرق إليها في هذه التدوينة، ولكن شنآن هؤلاء المتربصين بالقرآن والروضات القرآنية لا يمنع من طرح هذا الموضوع بكل نزاهة وموضوعية.

الحقيقة العلمية والتاريخية تقول إن القرآن وحده كمادة خام (دون سائر العلوم الأخرى من علوم الحديث واللغة والبلاغة وعلم التفسير وأصول الفقه والتاريخ وعلم المقاصد،…) تضر بالبسطاء والعامة أكثر مما تنفعهم، كيف ذلك؟

لقد حفل تاريخنا الإسلامي بذكر “القُرَّاء” وارتباطهم بقراءة القرآن حيث جاءت تسميتهم بـ”القُرَّاء”، وعبر عملية نشر الصحابة للقرآن في الأمصار خصوصاً في المدن العسكرية (الكوفة والبصرة) تشكلت حلقاتهم، وبالتعبّد بالقرآن تشرّبت نفوسهم روح الإسلام وضعفت علاقاتهم بقبائلهم (ما يقابل الوطن في عصرنا) وزالت من نفوسهم العصبية القبلية (الوطنية) لتحل محلها روح التمسك بالدين وتعاليمه، ولذلك كانوا أقل الناس تمسكاً بصلة الدم والنسب والقبيلة، حسبما يقول سليم النعيمي في دراسته “ظهور الخوارج”.

حيث قامت ثورة القُرَّاء على عثمان على خلفية أنّهم نظروا بسخط إلى محاباته لأقربائه على حساب أهل السبق في الإسلام، واعتقدوا أنه خالف سيرة أبي بكر وعمر، فكانت مشاركة بعضهم في حصار عثمان وقتله، بعد أن اتهموا الوليد بن عقبة، والي عثمان، بتعاطي الخمر وتوصلوا إلى عزله عام 30 هـ، ومن هؤلاء القرّاء جاءت فرق الشيعة والخوارج.

وفي ظل هذه النظرة السريعة لتاريخ “القُرَّاء” (في تاريخنا الإسلامي) المتفردين بالقرآن دون سواه من سائر العلوم، يجعل منا نضع ألف سؤال (معرفي وبيداغوجي بدون أي خلفية أيديولوجية) حول الروضات القرآنية في بلادنا، خاصة في ظل التصحر والحصار لسائر العلوم الإسلامية الأخرى من أصول الفقه والتاريخ الإسلامي ومقاصد الشريعة وعلوم البلاغة والتفسير وسائر المعارف الإسلامية الأخرى، مما يجعل من القرآن وحده خطرا على البسطاء أكثر مما هو منفعة أريد تحقيقها.

مناهجنا التربوية والتعليمية في تونس تعتمد (منذ 1957) على المناهج الأوروبية والفرنسية منها تحديدا، وهو ما جعل الساخطين على هذا الوضع (الأقرب للعلمانية الفرنسية منه لهوية الشعب التونسي المسلم دو المرجعية الأشعرية لعلماء الزيتونة على مدى تاريخ تونس المتوسط) والعائدين لدينهم ومعتقدتهم، دون الجيل الأول من الصحوة الإسلامية لسنوات السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي التي لها ظروف نشأتها وحاضنتها الخاصة بها، يعتكفون على دراسة القرآن وحفظه دون الالتفات إلى سائر العلوم الأخرى.

ولقد استمر هذا الوضع “المعادي” للهوية وللثقافة الإسلامية برهة من الزمن (من 1957 إلى اليوم) خصوصا في ظل حكم المخلوع واعتماد النظام التعليمي والتربوي للدولة (بدعم من اليسار وسائر نُخبه) على مبدإ “تجفيف ينابيع التدين”، مما أنتج شريحة من الشباب والكهول المتعطشين للعلوم الدينية، والذين لم يجدوا بدا من تفادي هذا النقص إلا بالاعتماد على التثقيف الذاتي (من كتب ومواقع إعلامية وإلكترونية) بالنسبة للشباب، وعلى ما وجد من مؤسسات تربوية تعنى بهذا الجانب وبالخصوص منها الروضات القرآنية بالنسبة للأطفال.

وهذا الوضع الترقيعي والعشوائي يجب أن يُطرح بكل جرأة، من قبل النخب المعتدلة في بلادنا، لوضع حد لهذه القطيعة مع الموروث الثقافي والعلمي والديني للشعب التونسي، وكما تجرّأت بعض النخب على طرح المواضيع الأشد حساسية وصداما مع معتقد الشعب (لجنة الحقوق الفردية والحريات)، كذلك يجب على الطرف الأخر من نخبنا أن يتطرقوا (بكل جرأة وشجاعة) لعرض الشأن الديني من مساجد ومناهج تربوية، للتصدي لظاهرة اليأس والإحباط التي يتعرض لها عموم الناس.

المهدي بن حميدة
في 30 أكتوبر 2018

المهدي بن حميدة

المهدي بن حميدة

العمر 55 سنة - متزوج وأب لثلاثة أطفال (بنتان وولد) - مقيم بسويسرا منذ 9 ماي 1992.
كاتب ومتابع للشأن السياسي والعربي والإسلامي - مدير شركة خاصة في الطباعة والتصميم والتوزيع.

أظهر كل المقالات