fbpx

الإطار التاريخي والاجتماعي الذي نشأت فيه

  • المهدي بن حميدة الكاتب: المهدي بن حميدة
  • الخميس 11 جمادى الأولى 1440 الموافق لـ 17 يناير 2019
  • 0
  • 1437 مشاهدة
الوالد محمد بن حميدة بمدرسة الصندوق بسيدي بوزيد سنة 1960

من أين بدأت الحكاية؟

في أحد الأيام الخوالي من سنة 1945 بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، كان أبي محمد بن محمد بن رمضان بن حميدة وعمره آنذاك 18 سنة وقد ختم حفظ القرآن منذ سنّ الحادي عشرة، يتلكّأ في مشيته مطرق الرّأس حاملا كل مشاعر اليأس والإحباط، من آثار واستتباعات هيمنة فرنسا وكل ما هو “فرنساوي” في تلك الحقبة من لغة ومعاملات وشهائد علمية، ذاهبا كعادته إلى سانية (الحقل الزراعي) خاله فاعترضه في الطريق الإمام الخطيب العدل أحمد الزياني رحمه الله راكبا دابته وكان مدرِّسا وخطيبا بجامع المعمورة من 1921 إلى 1948 وكان مرجعا في الحلال والحرام وعلوم الدين يهابه جميع سكان البلدة[1]، ذكر والدي هذه الحادثة في مذكراته فقال:” قال لي (أحمد الزياني) رحمه الله “يا خسارة حفظ القرآن وحده لا يكفي بدون فهمه وفهمه لا يكون بدون تعلّم العلم واللغة” فمنذ تلك اللحظة قررت في نفسي أن ألتحق بجامع الزيتونة لأتعلّم العلم كلفني ذلك ما كلّفني، والتحقت بوالدتي في ذلك اليوم بوادي العين وهي تنظف الحشيش من البصل، فحكيت لها عما قاله لي الشيخ أحمد الزياني وعما تركه في نفسي من إحساس نحو التعلم بجامع الزيتونة وكانت أمي تحب العلم والقرآن وتميل كثيرا إلى علوم الدّين والتديّن، فوافقتني على الخروج إلى تونس في شهر أكتوبر من سنة 1945″.

الوالد محمد بن حميدة في أول صورة التقطت له سنة 1945
الوالد محمد بن حميدة في أول صورة التقطت له سنة 1945

عادت الأم الحنون إلى المسكن فصعدت كرسيا ومدت يدها إلى فوهة عالية في البيت وجلبت منه مصوغها وكل ما تملك من الذهب والفضة الذي زُفّ لها في زفافها، ثم قالت لولدها اذهب يا بني إلى ما هداك الله إليه وتوكّل على الله فسيكون لنا عونا ويبعث لنا سببا للرزق بعد نفاذ هذه المصوغات، فباعت مصوغها وأنفقتها في تعليم ولدها الأكبر.

ذات 10 أوت من سنة 1952 أحسّ والد أبي بآلام مرض “الفتق” فحمله والدي إلى تونس بمعية صديقه محمد بن سلامة الصغير (الحاج علي رحمه الله) وكانوا تلاميذ يعلّمون الأطفال دروسا لتحضيرهم إلى الدخول إلى جامع الزيتونة، ذكر والدي هذه الحادثة في مذكراته فقال:” حملت والدي إلى مستشفى الطليان في ذلك الوقت الذي هو مستشفى الحبيب ثامر الآن، وهناك دخل إلى بيت العملية وأُجريت عليه عملية جراحية لم يكتب لها النجاح في ذلك التاريخ وتوفي والدي على إثرها يوم 13 أوت 1952 رحمه الله رحمة واسعة”.

مات أبوه وهو في سن الـ25 وترك معه أخوين (الهادي ورمضان) وأخت واحدة (فاطمة) في بيت متواضع بالمراح وسط القرية، وقد ساهم إخوته بالعمل اليومي في بعض نفقات دراسة أخيهم.

بعد فقد والده واصل أبي دراسته بجامع الزيتونة مستكملا شهادة التحصيل (بمثابة الأستاذيّة) وهي شهادة كان يحصل عليها طلبة التعليم الزيتوني في نهاية المرحلة الجامعية أي بعد أربع سنوات من حصولهم على أولى الشهائد الزيتونية المسماة بالأهلية (بمثابة الباكالوريا اليوم)، وقد أحدثت شهادة التحصيل طبقا للأمر العلي المؤرخ في 30 مارس 1933. ومع بداية مرحلة بناء الدولة الحديثة بعد إمضاء فرنسا لمعاهدة 20 مارس 1956 بينها وبين بورقيبة المعروفة بمعاهدة الاستقلال، تقدم أبي إلى مناضرة للدخول إلى التعليم الحكومي، وبما أن حاجيات البلد كانت أكثر في التعليم الابتدائي ومع اقتصار انتداب أساتذة التعليم الثانوي على خرّيجي التعليم الصّادقي (المدرسة الصّادقيّة) فقد وقع انتدابه وسائر أقرانه من خريجي التعليم الزيتوني في التعليم الابتدائي، وهو مبحث عميق وكبير يعود إلى صراع دام قرابة المائة سنة ومازال إلى اليوم بين مدرستين ونخبتين، طلبة وعلماء جامع الزيتونة وطلبة المدرسة الصادقية وخريجي الجامعات الفرنسية.

وقد اشترط الحبيب بورقيبة الرئيس الأول للجمهورية التونسية على المتحصّلين على “شهادة التّحصيل” من جامع الزيتونة أن يلتحقوا بكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدّين التي أسسها بورقيبة على أنقاض جامع الزيتونة ليكملوا ما نقص لهم من مواد لكي يُخوّل لهم التدريس بالمعاهد الثانوية العصرية، فكان الموظفون من مختلف جهات الجمهورية من حملة شهادة التحصيل من جامع الزيتونة يقبلون على الدراسة في الكلية الزيتونية في تلك الفترة للحصول على شهادة الأستاذية ]وقد جعلها فضيلة الشيخ العميد محمد الفاضل بن عاشور رحمه الله مسائية تبدأ في الساعة الرابعة بعد الظهر لتمتد إلى الساعة الثامنة مساء كل يوم إلا يوم الجمعة لتستأنف يوم السبت مساء وصبيحة يوم الاحد من الثامنة صباحا إلى منتصف النهار كل ذلك ليتمكن الموظفون سواء من العاصمة واحوازها أو من مختلف جهات الجمهورية من الحضور[2] . والدي لم ينتهز هذه الفرصة ولكن تمتع بها من المعمورة كل من محمد بن سلامة (الحاج علي) ومحمد بن قويدر (مؤلف كتاب تاريخ المعمورة) ومحمد بن سلامة (إمام الجمعة من 1975 إلى 2006) رحمهم الله.

سنة 1958 التحق أبي بالتدريس بالمدرسة الابتدائية بالبطان التابعة لولاية منوبة وكان راتبه الشهري 30 دينارا، وبتلك الوظيفة شرع في بناء منزلنا الكائن بالمراح، واشترطت عليه امه أن يبدأ ببناء منزلهم القديم أين تسكن هي مع أخويه رمضان والهادي وأختهم الصغرى والوحيدة فاطمة رحمهم الله جميعا، وكان منزلهم لأبيهم بمثابة بيت واحد يسكن فيه الجميع وكان جدّي لأبي فقيرا لا يملك من الدنيا إلا جملا وعود زيتون أسفل الجبل وذلك البيت، فأقام والدي إلى جانب بيت أمه بيتا لكل من أخويه وبنى بجانبهم منزله الذي تزوج فيه.

الوالد والوالدة في سيدي بوزيد من سنة 1966
الوالد والوالدة في سيدي بوزيد من سنة 1966

سنة 1960 انتقل والدي من البطّان إلى الصّندوق ثم الخشم من ولاية سيدي بوزيد كمدير بالمدرسة بعد أن خطب فتاة برزت في دراستها بالمدرسة الابتدائية بالمعمورة بعد نجاحها في مناظرة السيزيام (Brevet élémentaire)، وكانت من الفتيات القلائل اللاتي سمح لهن مركزهن الاجتماعي بالدراسة في المدرسة العربية والفرنسية[3] (Ecole franco-arabe)، حيث كان والدها حمزة الصيد رحمه الله يأخذها بنفسه إلى المدرسة ورجال البلدة يعيبون عليه هذا الفعل، كيف يحمل ابنته بنفسه إلى المدارس الفرنساوية، وكان جدي مناضلا شجاعا ضرب بكلامهم عرض الحائط، وهذه الفتاة هي صوفية البنت الكبرى لحمزة بن عمر الصيد، التي استطاعت أن تواصل دراستها الثانوية بمعهد الحداد بنابل المعروف بـ « Lycée de jeunes filles » حيث تألقت في مادة التصوير اليدوي والزيتي.

لم يستطع والدي الزواج إلا لما انتهت أشغال المسكن وتحقق شرط الوالدة في اقتناء المصوغ فتم البناء سنة 1965 وانتقل والدي إلى النوايل في تلك الجهة من سيدي بوزيد وهناك التحقت به أمي وولدت له فيها أخي الأكبر مراد في السنة التي تليها.

[1]  محمد بن قويدر: كتاب تاريخ المعمورة

[2]  الدكتورة هند شلبي: بيوغرافــــيا وبيبليوغرافـــــــــــيا | تحقيق وتوثيق حميدة بالسعد

[3]  وهي المدارس الابتدائية عندنا اليوم، والتي أنشأها Louis Machuel سنة 1883، وجعلها على نفقة المدرسة الصادقية بعد أن بعث فروعا في كل من تونس والقيروان وصفاقس ومجاز الباب: المدرسة الصادقية والصادقيون، أحمد عبد السلام – بيت الحكمة 1994

المهدي بن حميدة

المهدي بن حميدة

العمر 55 سنة - متزوج وأب لثلاثة أطفال (بنتان وولد) - مقيم بسويسرا منذ 9 ماي 1992.
كاتب ومتابع للشأن السياسي والعربي والإسلامي - مدير شركة خاصة في الطباعة والتصميم والتوزيع.

أظهر كل المقالات