fbpx

إهدار الحقيقة والعدالة

هيئة الحقيقة والكرامة

بقلم: أنور الجمعاوي

تعدّ العدالة الانتقالية ركناً متيناً من أركان إقامة نظام سياسي جديد في البلدان التي شهدت حراكا احتجاجيّا تغييريّا، أدّى إلى إحداث تحوّل في هرم السلطة، فالانخراط الفعلي في مشروع العدالة الانتقالية في دول في أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية وفي جنوب أفريقيا مكّن من نقض الدكتاتورية، وساهم في كشف حقائق مسكوت عنها، وأعاد الاعتبار إلى الضحايا وأنصفهم، وحدّد المسؤولين عن الانتهاكات، وخيّرهم بين الاعتراف والاعتذار من المظلومين أو الخضوع إلى المحاسبة القضائية، والمراد تضميد الجراح وتحقيق المصالحة الشاملة. وجاء في القانون الأساسي للعدالة الانتقالية في تونس أنّها تهدف إلى “فهم ومعالجة ماضي انتهاكات حقوق الإنسان بكشف حقيقتها ومحاسبة المسؤولين عنها، وجبر الضحايا وردّ الاعتبار لهم”.

ومن ثمّة، فإنّ كشف الحقائق، واستجلاء الانتهاكات، والسياقات التاريخية التي حفّت بها، والنفاذ إلى الأرشيف، وتجميع الشهادات والمعلومات، والاستماع إلى الضحايا ومرتكبي الانتهاكات شروط ضرورية لتأمين نجاح عمليّات البحث والتقصّي في الوصول إلى الحقيقة، وهي معطياتٌ مهمّة لتحديد المسؤوليات، وتقدير حجم الضرر اللاحق بالأفراد والمجموعة الوطنية جرّاء ممارسات الدولة الشمولية وأجهزتها البوليسية والمافيوزية. ويقتضي بلوغ هذه الأهداف وجود إرادة سياسية داعمة مسار العدالة الانتقالية، وقيام علاقة تفاعلية إيجابية بين أجهزة الدولة الرسمية والمشرفين على هذا المشروع، وهو ما لم يتحقّق في الحالة التونسية. ذلك أنّ هيئة الحقيقة والكرامة لم تجد، بحسب تقارير موثوقة متواترة، التعاون المطلوب من أجهزة الدولة، السياسية، والتشريعية، والإدارية، والتنفيذية، وهو ما عطّل المسار، وأثّر سلبا على جهود كشف الحقيقة وإعمال العدالة.

من الناحية السياسية، لم يُبدِ النظام الحاكم في تونس بعد انتخابات 2014، التشريعية والرئاسية، حماسة لمشروع العدالة الانتقالية، ولم يبعث رسائل إيجابية إلى الرأي العام الوطني والدولي في هذا الخصوص، وتجلّى ذلك في إحجام الرّئاسات الثلاث (الجمهورية/ البرلمان/ الحكومة) عن حضور جلسات الاستماع العلنية التي نظمتها الهيئة، وهو موقفٌ يستبطن حالة من عدم الارتياح لمشروع العدالة الانتقالية. ويمكن تفسير ذلك بأنّ أنصارا لحزب نداء تونس (الحاكم) هم من أتباع النظام القديم، ولا يروق لهم خوض الهيئة في تجلّيات الاستبداد وخلفياته في المرحلة البورقيبية والبنعلية، لأنّهم يخشون من أن تشملهم أعمال البحث والتقصّي والمحاسبة، ولأنّهم يعتبرون المرحلة البورقيبية خاصّة مرحلة تأسيسية، نموذجيّة، مقدّسة، لا تحتمل المراجعة والمساءلة، والتمحيص والنقد بما هي جزء من الرصيد التاريخي والإرث الرّمزي لحركة نداء تونس.

لذلك، حرصت منظومة الحكم بعد 2014، تحت عناوين مختلفة، على استقراب رموز النظام القديم بدل مساءلتهم، وعمدت إلى تبييضهم، والتمكين لهم في أجهزة الدولة ومواقع القيادة، وبلغ الأمر درجة توزير وجوه معروفةٍ بولائها للدّولة القامعة، وحامت حولها شبهات فساد وانتهاك لحقوق الإنسان. ومن ثمّة تشكّل، على التدريج، سياج سياسي رسمي مغاير للعدالة الانتقالية. وانعكس ذلك سلبا على الصعيد التشريعي، فماطل البرلمان التونسي في سدّ الشغور الحاصل في هيكل الهيئة، بسبب استقالة بعض الأعضاء أو إقالتهم، وظلّت هذه المؤسّسة المدنية منقوصة العدد ثلاث سنوات ويزيد، وأثّر ذلك سلبا على وتيرة عملها، وعلى جهدها الاستقصائي.

ولم يقف المجلس النيابي عند هذا الحدّ بل تجاوز ذلك إلى الاستيلاء على بعض صلاحيات الهيئة في مستوى التحكيم والمصالحة، فتمّ تمرير المبادرة الرئاسية المتعلّقة بالمصالحة الإدارية/ الاقتصادية، إثر توافق مشبوه بين نوّاب الحزبين الأغلبيين: حركة النهضة وحزب نداء تونس، ولم تعد تلك المصالحة المشبوهة بفوائد معتبرة على خزينة الدّولة، بل بيّضت الفاسدين، وقلّلت من صلاحيات هيئة الحقيقة والكرامة. كما رفض البرلمان المذكور في جلسة شابتها إخلالات قانونية عديدة التمديد سنة للهيئة، لتستكمل أعمالها، والحال أنّ ذلك حقّ يكفله لها القانون الأساسي المنظّم لانتصابها.

على الصعيد الإداري، أفادت رئيسة الهيئة، سهام بن سدرين، بأنّ وزارتي الداخلية والدفاع، وأملاك الدولة والقطب القضائي المالي، والقضاء العسكري، وأرشيف الرئاسة… لم تتعاون بالشكل المطلوب مع جهود الهيئة في كشف الحقيقة، فتمّ منعها من النفاذ إلى ملفّات ذات صّلة بالفساد المالي والبوليس السياسي، وشهداء الثورة وجرحاها. ومعلوم أنّ ذلك يتعارض مع مقتضيات الشفافية وحقّ النفاذ إلى المعلومة، ويؤدّي عمليّا إلى طمس الحقيقة، وتأمين إفلات مرتكبي الانتهاكات من المساءلة والمحاسبة. يُضاف إلى ذلك أنّ أجهزة الدولة التنفيذية لا تبدو جادّة في ملاحقة مَن علقت بهم شُبهات فساد أو تُهم إخلال بمنظومة حقوق الإنسان بين سنتي 1955 و2013. لذلك ترى أغلب جلسات الاستماع التي نظّمتها الهيئة حضرها الضحايا وغاب عنها المذنبون في حقّهم الذين تحصّنوا بالفرار أو الغياب أو عدم الامتثال لدعوة الهيئة لاستنطاقهم.

ولم يُكلّفوا أنفسهم الاعتراف بما اقترفت أيديهم، والاعتذار لآلاف المظلومين. وبحسب رئيسة الهيئة، رفضت وزارة أملاك الدولة التعاطي مع آلاف الملفّات (21000 ملف) المتعلقة بانتهاكات منتسبين لوزارة الداخلية حقوق مواطنين تونسيين. وتعلّل الوزير بأنّ تعويض الضحايا يُكلّف ميزانية الدولة غاليا، والأفضل أن تُوجّه تلك الأموال إلى التنمية،متناسيا أنّ آلاف المظلومين سرقت الدولة القامعة أعمارهم، وعطّلت حياتهم، ومنعتهم من العمل والسفر والنجاح في المناظرات العمومية، على خلفيّة انتمائهم السياسي أو نشاطهم النقابي. ومن واجب الجمهورية الثانية الاعتذار لهم، وإصلاح حالهم، وجبر ضررهم مادّيا ومعنويا، وهو فعل أخلاقي، إصلاحي، تنموي لا محالة.

صحيحٌ أنّ هيئة الحقيقة والكرامة شقّتها تجاذباتٌ سياسية، وتنافس على النفوذ وصراع على القيادة، وانهمكت، إلى حدّ ما، في تقليب الماضي البعيد، ولم تبادر مبكّرا إلى تقديم مرتكبي الانتهاكات الجسيمة إلى الدوائر القضائية المختصّة، واحتدم جدلٌ حول كيفيّة تصرّفها في مواردها المالية، لكنّ الثابت أنّها وصلت إلى أكبر عدد ممكن من الضحايا، وجمعت كمّا هائلا من المعلومات عن حقبة الدولة الشمولية وآليات اشتغالها، وأنارت الرأي العام حول مسائل خلافية متعلقة بتاريخ تونس. وبطء الهيئة في تحقيق الإنصاف والمصالحة لا تتحمّل فيه المسؤولية وحدها، بل الأمر راجعٌ، في جانب ما، إلى مماطلة أجهزة الدولة الرسمية في بذل الجهد المطلوب، لكشف الحقيقة وتكريس العدالة.

والمؤكّد أنّ انتهاج سياسات الالتفاف والتعطيل والتأجيل في التعاطي مع العدالة الانتقالية، والتوجّه نحو الإيقاف القسري لأشغال هيئة الحقيقة والكرامة، واختراع هياكل موازية لها أو بديلة عنها، لا يخدم بحال مسار الديمقراطية التونسية الوليدة، بل يؤخّر مشروع الإنصاف والمصالحة، ويزيد من معاناة الضحايا، ومن تراجع شعبية الائتلاف الحاكم، ويعمّق أزمة الثقة بين الحاكم والمحكوم لا محالة.

المهدي بن حميدة

المهدي بن حميدة

العمر 55 سنة - متزوج وأب لثلاثة أطفال (بنتان وولد) - مقيم بسويسرا منذ 9 ماي 1992.
كاتب ومتابع للشأن السياسي والعربي والإسلامي - مدير شركة خاصة في الطباعة والتصميم والتوزيع.

أظهر كل المقالات