fbpx

مخاطر التصويت المفيد على الديمقراطية في تونس

  • سهيل الغنوشي الكاتب: سهيل الغنوشي
  • الجمعة 14 ربيع الثاني 1440 الموافق لـ 21 ديسمبر 2018
  • 0
  • 1312 مشاهدة
سهيل الغنوشي

أكبر مكسب أو الوحيد في هذه الانتخابات هو تثبيت التصويت للأجدر من أجل تحصين الانتخابات من تأثير الخارج واللوبيات: شهادة للتاريخ، في إطار اغتنام الموسم الإنتخابي من أجل التثقيف والتوعية، نحو فهم أعمق للانتخابات والسياسة: الإنتخابات هي في الظّاهر تنافس بين مرشّحين وحملات وأحزاب، ولكن في العمق هي صراع بين الإرادة الشعبيّة ممثّلة في تصويت النّاخبين من جهة، وبين اللوبيات المتحالفة أو المتصارعة التي تسعى للتحكّم في الإنتخابات وتوجيهها، من خلال تمويل الأحزاب والحملات ومن خلال الإعلام التّجاري. الفريق الأوّل ينتصر بالمشاركة المكثّفة والواعية، والتصويت الحرّ لمن يقنع. أمّا الفريق الثاني، فينتصر بوسائل أخرى كما سيأتي بيانه.

ولذلك يقال عن الإنتخابات الأمريكية، التي تهيمن عليها اللوبيات، ” one dollar, one vote » بدل “one Man, one vote “، يعني “صوت لكلّ دولار”، بدل “صوت لكلّ مواطن”. وبالمناسبة، أنا غير مبهور بالإنتخابات الأمريكية، التي أفرغت من أيّ مضمون، وأصبحت Show و Business، للأسباب التي سأشرحها. ولذلك أحذّر من محاولة تقليدها، خصوصا وأنّ الانتخابات الأمريكية فيها جملة من العوامل المساعدة التي تحدّ من الأضرار، والتي لا تتوفّر في تونس إطلاقا، على رأسها أنّها دولة مستقلّة، وثانيا: نظامها على قدر عال جدّا من الشفافيّة والرّقابة والصرامة، خصوصا في تمويل الأحزاب والإنتخابات، ومحاربة الفساد والإحتكار، وثالثا: أنّ اللوبيات في أمريكا متدافعة ومتنافسة ومتصارعة، وتضغط بكلّ الإتّجاهات، ورابعا: أنّ المرشّحين الرّئيسيين الجمهوري والديمقراطي، ينتخبان في حزبهما من خلال انتخابات أوّليّة داخل الحزب، تحتدّ فيها المنافسة والمناظرات بين المرشّحين، على مدى شهور. وخامسا: النّظام الأمريكي فيه فصل بل تفتيت أفقي وعمودي للسلطة (الفدرالي، الولاية، المدينة، المقاطعة،…)، وفيه مؤسسات حكم قويّة ومتوازنة، ومجتمع مدني وازن، ولا يخفى شيء من تصرّفات ومحادثات الرّئيس (كلّ شيء موثّق)، ولا شيء من أفعال الحكومة والوزارات يخفى على لجان الكونغرس (بما في ذلك وكالة الإستخبارات والأمن القومي). (شفافية كاملة). ومع ذلك، هذه الإنتخابات أفرزت ترامب ومن قبله بوش، وفي الإنتخابات الأخيرة، أُختِرَقت من الخارج، وتمكّنت روسيا من التأثير فيها، والتحقيقات جارية.

فما بالك في دولة مثل تونس، التي تنعدم فيها كلّ تلك العوامل المساعدة، التي تحمي الإنتخابات من العبث والاختراق. دولة غير مستقلّة، لا تملك قراراها، خاضعة للوصاية ومستباحة سياسيّا واستخباراتيا (من قبل دول واستخبارات أجنبيّة)، تنعدم فيها الشفافية والرقابة، ونظامها ينخره الفساد، بل هو راع للفساد، واللوبيات لوبي واحد، ورؤساء الأحزاب تقريبا ملوك أو رؤساء قبائل أو شركات، يتقدّمون للإنتخابات الرئاسية أوتوماتكيّا، والنّظام مركزيّ جدّا (في مخالفة للدستور)، ومؤسسات الحكم مترهّلة (برلمان وحكومة يهيمن عليهما رؤساء الأحزاب) أو غير موجودة (مثل المحكمة الدستورية)، والسياسة يكتنفها الغموض والألغاز (لا تحقيقات ولا محاسبة).

عاملان أساسيّان أوصلا الانتخابات الأمريكية إلى هذا الوضع، وهو المسار الذي يدفع بعض التوانسة الإنتخابات باتجاهه، وينزعجون من الطّرح الذي نطرحه.
هذان العاملان هما: التصويت الحزبي الآلي/الأعمى المضمون لمرشّح الحزب، والتصويت المفيد vote utile، وكثيرا ما يقترنان. مرشّح الحزب قبل أن ينطق حرفا، أو يقدّم نفسه، أو يعدّ برنامجا، ضامن للتصويت الآلي/الأعمى لأعضاء حزبه (إمّا آلاف، أو عشرات أو مئات الآلاف، أو الملايين أو عشرات الملايين، بحسب البلاد). يحدث ذلك مع مرشّحي الأحزاب الرئيسية، فيتقدّمون فورا في سبر الأراء، فيبدأ الحديث فورا عن التصويت المفيد لهؤلاء المرشّحين البارزين. فتنتهي وتُحسَم الإنتخابات تقريبا قبل أن تبدأ.

النتيجة، يصبح لا معنى لترشّح أشخاص آخرين، فيقع استبعاد/إقصاء غير مباشر لكلّ مرشّح لا يملك تمويلا ثقيلا ولا يسوّقه الإعلام التجاري، ويقرّر الأغلبيّة العزوف (في أمريكا نصف الناخبين تقريبا لا يصوّتون). فتظلّ الإنتخابات تنافسا على الشريحة الصغيرة المتأرجحة غير المتحزّبة، التي ستصوّت على أساس التصويت المفيد، أو يصوّتون على أساس وعود فئويّة، أو يصوّتون لمن يرونه أقلّ سوء، أو ضدّ المرشّح الآخر. فلا يكاد يصوّت أحد على أساس القناعة بالمرشّح أو على أساس البرنامج أو المصلحة الوطنيّة. فمالذي يجعل الرّئيس يحرص على النّجاح أو يهتمّ كثيرا بأوضاع الناس ورضاهم عنه. حتّى لو يفشل في مهمّته، يمكن أن ينافس في الانتخابات اللاحقة، ويمكن أن يفوز، لأنّ فوزه غير مرتبط ببرنامجه أو أدائه، بل يعتمد على الأصوات المضمونة واللوبيات المموّلة، وذلك يجلب له تصويتا مفيدا، الذي هو أيضا يعتبر شبه مضمون بصورة غير مباشرة.

وفِي ظلّ التصويت المضمون من أعضاء الحزب والتصويت المفيد شبه المضمون، لا يظلّ أي معنى أو داع أو قيمة للمناظرات والحملات والحوارات. (في أمريكا مثلا، يخسر أو يكسب المرشّح الانتخابات بعوامل تافهة سخيفة لا علاقة لها بالكفاءة والبرنامج، بل بالصورة والتسويق والدعاية…).

لا شكّ أنّه من الطبيعي أنّ أعضاء أيّ حزب يصوّتون لمرشّح حزبهم، لكن ليس آليّا. لا بدّ من إيجاد صيغة بحيث يقع تمحيص/انتخاب المرشّح من قِبل أعضاء الحزب، وآلية تضطرّ المرشّح لإقناع أعضاء حزبه، قبل أن يخرج به الحزب لإقناع النّاخبين. طبعا إقناع أعضاء الحزب أسهل، لكن لا ينبغي أن يصبح الترشيح أوتوماتيكيّا أو التصويت أوتوماتيكيا، لأنّ هذا حزب وليس طائفة. التصويت الأعمى نهايته ديمقراطية طائفيّة على الطريقة اللبنانيّة، التي هي بلا طعمة وبلا تأثير.

محصّلة مسار التصويت الحزبي الآلي والتصويت المفيد: هيمنة المال السياسي (من الدّاخل ومن الخارج) واللوبيات (في تونس لوبي واحد تقريبا) على العمليّة السياسيّة والإنتخابيّة، وارتهانها للخارج وللمال السياسي، الذي في الحالة التونسيّة على الأرجح مال فاسد، واحتمال كبير، نظام الحزبين، اللذين يموّلان من نفس الجهات تقريبا (يعني مسخرة). لماذا؟
هذا المال واللوبي هو الذي يموّل الماكينات والحملات، ويتحكّم في العمليّة السياسية والإنتخابيّة من خلال خليط من تصويت مفيد، وتصويت حزبي آلي، والعزوف. هذا المسار نتيجته الحتميّة في تونس، تكريس للوصاية والفساد، وتشجيع للمال السّياسي، واستبعاد للكفاءات في المستقبل، وحصر المنافسة بين من تقف وراءهم جهات أجنبيّة أو لوبيات محلّية (على الأرجح فاسدة)، وإفراغ للعمليّة السياسية والإنتخابيّة من أيّ مضمون، لتصبح مجرّد business و show .

ولذلك أنا ضدّ التصويت المفيد، وضدّ العزوف، وأدعو لإيجاد آليّة في المستقبل تمكّن أعضاء الحزب من انتخاب مرشّحهم بعد منافسة وتمحيص. بل أعتبر أنّ التصويت المفيد هو إهدار للصوت، ولا يختلف في ضرره عن بيع الصوّت. في الحالتين، أنت تصوّت لشخص لم يقنعك. وأعتبر أن التصويت الحزبي الآلي والتصويت المفيد هما اللذان يخدمان المنظومة ويسهّلان مهمّتها، إذ لا مقارنة بين محاولة السيطرة على ناخبين أحرار يشاركون بكثافة، وبين التحكّم في عدد قليل من الأحزاب، خصوصا الأحزاب في تونس والبلاد العربيّة. السبيل الوحيد لمنع كلّ تلك الكوارث والمآلات الوخيمة، والسّلاح الوحيد الذي يملكه الشّعب لترجيح كفّته على حساب كفّة المال السياسي واللوبيات والتأثير الخارجي، ووضع الإنتخابات على السكّة الصحيحة، هو التصويت للمرشّح الذي يقنعك، أيّا كانت حظوظه وأيّا كانت النتائج.

موقفي من منظومة الوصاية والفساد ووكلائها ومرشّحيها معلوم، وأنا أدعو ليلا نهارا لمقاومتها بلا هوادة. لكن للأسف، هذه الإنتخابات ومن خلال المؤشرات، على الأرجح ستتمخّض على استمرارية continuité، لمنظومة الحكم والسيستام وللأوضاع والسياسات القائمة الآن، أيّا كانت النتيجة التي ستفرزها. ومن هذه الزاوية هي انتخابات بلا رهان. يكاد الفرق ينحصر في اللّوك look، الذي ستخرج به المنظومة. سقف هذه الإنتخابات “same soup; different bowl”، يعني سقفها تغيير الإناء، أو لعبة الكراسي الموسيقية (المرشّحون للفوز بالمراتب الأولى هم في الحكم منذ سنوات، بشكل أو بآخر، بما فيهم القروي). بالنسبة للشعب والوطن، لن يتغيّر شيء في كلّ السيناريوهات المحتملة، أيّا كان الفائز والترتيب. تستطيع أن تشبّه هذه الانتخابات بتغيير الحكومات على مدى السنوات الماضية.

في المقابل، هي حاسمة وتمثّل فرصة ذهبيّة ونادرة قد لا تتكرّر، لتثبيت التصويت على أساس الإقناع والجدارة، وترجيح كفّة الشعب على حساب كفّة المال السياسي واللوبيات والتأثير الخارجي، ووضع الإنتخابات على السكّة الصحيحة، وتجريد منظومة الوصاية والفساد من أسلحتها وأدوات التأثير والتحكّم في الانتخابات.

فإمّا تضعون الانتخابات على السكّة الصحيحة، لتصبح مع مرور الوقت، تعكس الإرادة الشعبيّة الحقيقية، وتفرز الأفضل، يعني الفوز للأجدر (من خلال الترشّح المفتوح، والمنافسة بالبرامج والكفاءة، والمشاركة المكثّفة)، أو تضعونها على سكّة الإنتخابات الأمريكية (بدون كلّ العوامل المساعدة)، أو الإنتخابات اللبنانية، وذلك يعني في تونس، تكريس للوصاية والفساد، والقضاء على أيّ أمل لإصلاح أو تغيير هذا النظام وهذه الديمقراطية المغشوشة، في المستقبل، خصوصا وأنّ هذا المسار ورطة، إذا دخلت فيه العمليّة الإنتخابيّة لن تخرج منه أبدا.
فستذكرون ما أقول لكم.

إنّ الرّائد لا يكذب أهله.

الدكتور سهيل الغنوشي