fbpx

الصّحوة الإسلامية بالمعمورة

  • المهدي بن حميدة الكاتب: المهدي بن حميدة
  • الخميس 4 جمادى الأولى 1440 الموافق لـ 10 يناير 2019
  • 0
  • 1214 مشاهدة
افتتاح جامع الغفران بالمعمورة يوم 6 نوفمر 1988

ظل كل من صالح البناي وزهير مخلوف ومعهم الوالد محمد بن حميدة وابن عم والدي عبد الله بن حميدة لا ينقطعون كلهم عن تعزيري وتذكيري بالعودة للمسجد، وفي أواخر سنة 1984 عدت للصلاة بالمسجد وبعودتي صادف أن الجماعة كبرت وصارت حلقة القرآن تملا الصف الأخير كله تحت السدة من الباب الأول على اليمين إلى باب النساء المقابل وانطلقتُ معهم في حفظ سورة الملك وقد وجدتهم في الآيات الأخيرة من سورة نون، وكانت هذه الحلقة تسمى “الملّة” حيث انطلقوا في البداية من سورة المرسلات باعتبار ان كل أندادي في تلك الفترة قد حفظنا الجزء الأول في الكتاب عند الصادق بن حميدة.

جمعية المحافظة على القرآن الكريم بالمعمورة
جمعية المحافظة على القرآن الكريم بالمعمورة

وشهدت الجماعة أوج انتشارها في صفوف الشباب والشابات، وكان السبب الأول الذي دعاني للعودة للمسجد هو موكب زواج أحد الإخوة (محمد الجميل) الذي مر بالمراح في ليلة صيف متجها إلى المسجد وكانوا يرددون نغمات ذكرتني بمشهد من قبل اثر في شديد التأثير وهو “فيلم الرسالة”، ثم كان أول نشاط التحقت به هو أن الإخوة في المسجد نظموا عريضة ضد مقهى الشاطئ التي كانت توزع الخمر وتجذب زبائنها من الشباب الطائش من المعمورة ومن بني خيار الذين يدخلون البلدة عشية ويعودون منها ليلا سكارى ويتطاولون على نساء وبنات البلدة عند عودتهم من الطريق المجانب للمقبرة، فتحصل مشاجرات تصل حد الجرائم بين شباب المعمورة الذين يدافعون على بناتهم وشباب بني خيار الذين عبثت الخمرة بعقولهم، ولاقت هذه العريضة استحسانا من الناس وأمضى عليها كثير من كبار البلدة.

الصحوة في صفوف الفتيات

بقي قطاع الفتيات بالمعمورة محافظا بصفة عامة ولم يعرف فتيات البلدة مظاهر للتسيب المظهري أو الأخلاقي وبرغم موجة التغريب التي وصلت إلى جزء مهم من قطاع الشباب وذلك بمخالطة السيّاح الغربيين فقد بقي فضاء الإناث محافظا عدى بعض موجات المراهقة التي لا تتجاوز الرسائل الغرامية والمقابلات العاطفية في أقصى الحالات.

عرفت المعمورة ومعهد بني خيار في هذه الفترة من سنة 1984 إقداما مكثفا في صفوف الفتيات على ارتداء الزي الإسلامي المعاصر (الحجاب)، ولبس الحجاب عدد من فتيات المعمورة زاد “الجماعة” ترسخا وانتشارا في المجتمع، علما وأن الحجاب على النحو الذي ترتديه أخوات الحركة الإسلامية لم تكن ترتديه سوى بضع أخوات لا يتجاوزن الثلاثة، وأول فتاة لبست الحجاب في المعمورة هي أخت رفيقة بنت محمد الزميتي زوجة محمد الجميل.

كما لا يفوتني ذكر مسألة مهمة وهي أن أخوات المعمورة كن يرتدين اللباس التونسي التقليدي (السفساري) في تنقلاتهن داخل البلدة (إلى المسجد والأعراس) وكن يرتدين الحجاب على الطريقة المعاصرة فقط خارج البلدة والذهاب للمعهد لأن السفساري لا يساعد على الحركة وممارسة شؤون الحياة اليومية المعاصرة بسهولة، وكن يخرجن من المسجد، في الليلة التي كان السيد الهادي زرياط يلقي درسه الأسبوعي بعد صلاة العشاء، كسرب الحمام لا ترى إلا السفساري ولا تعرف منهن واحدة.

كما تجدر الإشارة إلى عنصر الرفض للسائد والمعهود لدى فئة الشباب حيث كان أغلب شباب الصحوة الإسلامية يرفضون الاستماع إلى خطب الجمعة التقليدية التي كانت تلقى من على منابر “أئمة السلطة”. وكنا نذهب لحضور خطبة الجمعة ببني خيار بمسجد السوق التي كان يلقيها بحماسة الأستاذ حمدة سعيّد.

التحاقي بالجماعة

انتبهت بعد فترة وجيزة من عودتي للمسجد أن بعد كل صلاة يجتمع شباب الجماعة امام الجامع ثم يتوجهون باتجاه الحومة الجبلية ولا أدرى ماذا يفعلون وعما يتحدثون فيما بينهم، ولكني كنت متعطشا للحاق بهم ومعرفة ماذا يتدارسون، وفي إحدي العشيات من بعد صلاة العصر قررت أن ألتحق بهم وقد عرفت أنهم يذهبون إلى دكان صغير مجاور لدار زهير مخلوف، وفي طريقي إليهم كنت افكر ما هو السبب الذي سأقول لهم ومبررات لحاقي بهم، وعند دخولي لزنقة دار شوبان وانا مطرق افكر في سبب مقنع يدفع عني التطفل والحرج، اعترضوني خارجين فكنت امامهم وجها لوجه فتلعثمت وقلت لهم جئت ابحث عن كتاب كذا وكذا، فأخذني زهير وكان مستبشرا بقدومي وأدخلني الدكان وأعطاني الكتاب، وكانت ضربة البداية لالتحاقي بالجماعة.

منذ ذلك الحدث وانا متعلق بهذه الجماعة التي كنت أراها منقذي من الضياع، وكان زهير كذلك معتنيا بي شديد الاعتناء بعد تلك الحادثة ويتفقدني بعد كل كتاب أقتنيه، إلى أن صرت أذهب للدكان مرات عديدة، وفي إحدى المرات قال لي زهير سأريك شيئا ولا تقل لأحد، ثم اخرج لي كتابا من تحت العباءة فنظرت فإذا هو كتاب الشيخ راشد الغنوشي “مقالات” وكانت مخاطر امتلاك تلك الكتاب السجن لا محالة، وأعجبت بتلك الاهتمامات الهادفة بعد ان اطلعت على بعض مقالات الكتاب، وفي إحدى الليالي استدعيت من قبل زهير لالتحق بمنزل أخ لنا، فإذا بي مع ثلاثة إخوة آخرين ومعهم زهير ثم شرعنا في تدارس بعض الكتب التربوية والحركية وتفسير القرآن وحفظ الأحاديث وكان ذلك مرتين في الأسبوع.

وبعد أشهر فهمت ان تلك السهرات الليلية لتدارس بعض الكتب كانت تسمى “أسرة” وتعلمت في تلك “الأسر” كيفية التحليل وعرض الفكرة وشرح ما أقراه من الكتب وتعلمت كيف أناقش وكيف أطلب الكلمة وكيف أقوم الليل وكيف أصوم النوافل، وكنا نتسحّر بعد طول سهر وننظم الإفطارات الجماعيّة ونقلي “البريك” بمفردنا، فكان جوًّا مليئا بالإيمان وتلقي العلم، حيث كانت تلك “الأسر” المحضن الحقيقي والإطار المربي لي بعد أن تربينا كباقي أندادنا على الطريقة المعمورية “سيب ولدك في المراح يسرح”، علما واني أذهب إلى السهر بعد ان انتهي من مراجعة دروسي أو في نهاية الأسبوع.

وفي إحدى السهرات في منزل أحد الإخوة ونحن ساهرين مر شاب من شباب المعمورة عائدا من سهراته الليلية مع شباب المعمورة التائه، فطرق الباب وطلب من زهير ان يقتنيه “كاسات” لأحد المنشدين وكان هذا الأخ هو سعيد مخلوف وتعرفت عليه بعد أن أصبح ملتزما هو بدوره بالمسجد وبالجماعة وصرت أذهب إلى منزله لكي أراجع دروسي وكان سعيد معلما منكبا على إصلاح دفاتر التلاميذ، وتوطدت العلاقة بيني وبينه حتى أصبح صديقي المفضل.

لا يفوتني ذكر مسألة مهمّة وهي أن أخي مراد كان ملتزما بالجماعة ولم يبتعد عن المسجد يوما وقد كان أبي يعطينا بداية كل أسبوع دينارا لكل واحد منا مصروف الجيب، وكنت أشتري بها كسائر اندادي أشياء آكلها بينما كان أخي مراد يحتفظ بذلك الدينار ويشتري به مجلّة “المسلمون” أو كاسات لأحد المنشدين (أبو راتب، أبو الجود، أبو دجانة،…) أو كتابا، وكنت أطّلع على تلك المشتريات وأتثقف بها. وكنا قد اشترينا سنة 1972 المنزل الذي بجانب منزلنا بالمراح من أم سعيد وأختها (مرت حميّد بن حميدة) رحمهم الله، وبنينا ذلك المنزل الذي هو الآن بالركن جنب دار أخي إكرام (ولد في 25 جويلية 1968) وتوسّعنا فيه عندما اكتمل بناؤه.

سنة 1983 كنت انا ومراد وإكرام نسكن بذلك “العلي” (الطابق الأول) مستقلين وكانت هذه الاستقلالية عاملا مساعدا لنا لكي نختار حياتنا بكل حرّية وبدون رقابة شديدة والحال أن أبي كان يترك لنا كامل الحرّية في اختيار الطريق الذي نسلكه عدى طريق الفساد فهو يتدخّل، وكان ذلك “العلي” بمثابة “دار الأرقم بن أبي الأرقم” نجتمع فيه لتدارس أوضاع الصّحوة وكان ذلك المنزل بالأخصّ بمثابة المدرسة الخصوصية لأبناء المسجد يأتي إليه كل التلاميذ لتلقي دروس تدارك مجانية في الرياضيات والإنجليزية والعربية، وكانت صبّورة خضراء مثبّتة على جدار إحدى الغرف تلقّى منها العلم أغلب الإخوة والأخوات بالجماعة.

هذا وأسوق طرفة في هذا المجال، حيث أن عمدة البلدة السيد الحبيب الصّامتي رحمه الله وكان رجلا ديناميكيا يعمل بجدّية، كان يمر يوميا على دراجته الهوائية من أمام منزلنا قادما من منزله ليتوجه إلى وسط البلدة، ساقته غيرته أن ذهب مرّة إلى معتمد بني خيار كالعادة ليطلعه على آخر تطورات البلدة وقال له:” سيد المعتمد في ذلك “العلي” من منزل محمد بن حميدة إمام البلدة يجتمع “الاخوانجية” ويستمعون إلى كاساتات وأناشيد غريبة”، فقال له المعتمد: هكذا يسمعون أناشيد غريبة؟ اذهب واخرج عني وطرده بحسب ما روي لنا من مكتبه، رحمه الله إن غيرته وتفانيه في مهنته دفعته إلى أداء واجبه على أحسن وجه كعمدة للبلدة في ذلك الوقت.

المهدي بن حميدة

المهدي بن حميدة

العمر 55 سنة - متزوج وأب لثلاثة أطفال (بنتان وولد) - مقيم بسويسرا منذ 9 ماي 1992.
كاتب ومتابع للشأن السياسي والعربي والإسلامي - مدير شركة خاصة في الطباعة والتصميم والتوزيع.

أظهر كل المقالات