fbpx

أصل اليهودية والدين اليهودي

التفاف العنصريين من اليهود حول العجل الذي عبدوه

اليهودية لم تكن موجودة كدين إلى غاية حكم سيدنا داوود ثم سيدنا سليمان الذي توفي حوالي سنة 930 ق.م، فمنذ أنبياء الله إبراهيم ثم إسحاق ثم يعقوب ثم يوسف ثم موسى عليهم السلام، لم يكن لليهود سوى الكتب المذكورة في القرآن (صحف إبراهيم وموسى) واتباع الحنيفية وهي عقيدة التوحيد.

فقوم إبراهيم هم حنفاء لله مسلمون، قال تعالى (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 67) سورة آل عمران، وظلت الحنيفية تنتقل بين تلك الشعوب إلى أن وصلت إلى يوسف النبي الذي قال لصاحبيه في السجن (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ۚ ذَٰلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38 يوسف) ثم بدأت العنصرية تتكون وتنتشر في بني إسرائيل من أبناء يعقوب (إخوة يوسف) إلى أن أصبحت ظاهرة متفشية في عهد موسى عليه السلام.

إذ لما خرج نبي الله موسى بقومه من مصر هروبا من بطش فرعون وكان ذلك حوالي سنة 1280 ق.م، ولما وصلوا سيناء ومدين تآلفوا وتصاهروا وتعاهدوا مع أهل تلك المناطق وهو ما يطلق عليه علماء التوراة بالحلف القبلي، ويشمل هذا الحلف شمال غربي الجزيرة العربية (مدين) وجنوب فلسطين وصحراء سيناء، والعامل الأساسي في نجاح الحلف بين أقوام جاؤوا من مصر والأقوام الأصليون من مدين وصحراء سيناء هو طابع الحنيفية الطاغي على عقيدة الوافدين من أقوام موسى، فرحبوا بهم وتعاقدوا وتصاهروا معهم، وأول مدينة فلسطينية دخلت في الحلف القبلي هي مدينة السامرة، إضافة إلى مدينة أريحا التي دخلوها عنوة عن طريق القتال.

غير أن أتباع موسى عليه السلام لم يكونوا كلهم حنيفيون، إذ كان فيهم العنصريون والمعاندون الذين لا يتركون فرصة إلا وحاجوا فيها نبيهم وبينوا لهم قسوة قلوبهم وسوء أخلاقهم وفساد طبائعهم، حتى أنهم عبدوا العجل عندما ذهب موسى لملاقاة ربه، كما انهم طلبوا من موسى أن يجعل لهم إلاها عندما عبروا النهر ووجدوا قوما يعبدون أصناما، قال تعالى (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ ۚ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ۚ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَٰؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَٰهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ۖ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) سورة الأعراف

ولقد حكم الله على العنصريين والمعاندين من بني إسرائيل بالتيه أربعين سنة بعد أن أمروا أن يقاتلوا القوم الجبارين في مدينة أريحا فأبوا وقالوا لنبيهم قولتهم اللعينة، حيث ذكر الله تعالى هذه الحادثة في القرآن فقال على لسان موسى (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ۖ فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) سورة المائدة.

وأول ما اخذ الحلف القبلي عن الكنعانيين لغتهم، وهي اللغة العبرية، واللغة العبرية لهجة من لهجات اللغة الآرامية وهي اللغة التي يتكلمها المهاجرون الصحراويون بين القرن العشرين والتاسع عشر قبل الميلاد. والعبرية لغة متفرعة عن اللغة السامية الأم وهي اللغة العربية، ومن المؤكد أن الحلف االقبلي لم يكن يتكلم هذه اللغة، مع انه كان يتكلم لغة قريبة منها بالنظر لكون اكثرية أعضائه من سكان سيناء ومدين وهم آراميون من اصل واحد[1].

وظل هذا الحلف القبلي قائما بين مدن شمال ووسط فلسطين قرابة الثلاثة قرون إلى غاية عهد الملك شاؤول (بالعبرية) و لقبه أو كُنيته “طالوت” وُصف به للمبالغة في طول قامته كما ورد ذكره في القرآن الكريم في سورة البقرة (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (248). وحكم طالوت هذا كان في مملكة يهوذا (Royaume de Judée) وعاصمتها الخليل (Hebron).

فظهر في عهد طالوت فتا ذكي اسمه داوود كان بارعا في القتال فقتل داوود جالوت (Golyat) كما ذكر الله تعالى ذلك في القرآن فقال (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ۚ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ۚ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۚ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) البقرة

وفي عهد داوود عليه السلام ثم سليمان من بعده، اجتمع الأحناف والعنصريون وكونوا أول كيان سياسي لهم وهي “مملكة يهوذا” وعاصمتها حبرون  أي الخليل في نابلس، ولم يكن “لأورشليم” (القدس) إلى حد سنة 1000 ق م أي ذكر ولم تدخل أورشليم الحلف القبلي، إلى أن بدأ حكم داوود عليه السلام يكبر ويتوسع فاتخذ بعد ذلك من أورشليم عاصمة له ولجميع سكان فلسطين وذلك سنة 990 ق م.

فبمجيء حكم داوود عليه السلام انتقلت الخلافة بين بني إسرائيل من حكم الأنبياء إلى حكم الملوك الخلفاء، قال تعالى (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) سورة ص

ثم انتقل الحكم من داوود عليه السلام إلى ابنه سليمان، قال تعالى في سورة النمل (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا ۖ وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ۖ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16).

لم تعش هذه “المملكة الداوودية” العظيمة التي أرست أول كيان سياسي لبني إسرائيل إلا 78 سنة، هذا الكيان الذي ربط الدين بالدولة وأخذ الحكم الملكي الاستخلافي، الذي أداته تسخير المخلوقات (من الإنس والجن والرياح والطير)، مكان حكم النبوة الذي اداته المعجزات والخوارق الإلهية، وهو ما كان عليه بنو إسرائيل أيام نبي الله موسى عليه السلام.

ففي سنة 922 ق.م انفجرت قبائل الشمال وثارت ضد حكم أورشليم، إذ لما توفي سليمان عليه السلام سنة 930 ق.م واعتلى العرش ابنه “رحبعام” من بعده، ثارت عليه القبائل الشمالية فأعلنت انفصالها عن المملكة الداوودية وأسست “دولة إسرائيل” وعادت “دولة يهوذا” التي احتفظت على أورشليم عاصمة لها.

ومنذ انفصال “إسرائيل” عن الدولة الداوودية وقيام الدولتين، أخذت الأمور تتدهور سريعا، إذ لم يعد لمكان داوود وسليمان الشخصية التي يمكن لها أن تسيطر على شعب الحلف القبلي (جميع أسباط بني إسرائيل ومعهم قبائل الصحراء ومدين وسيناء)، وتتمكن من الاحتفاظ بزمام الأمور، فتفككت الوصال ونقضت الأحلاف والمعاهدات وما هي إلا أشهر حتى تفتت المملكة وعادت إلى ما كانت عليه قبل داوود.

وتقلصت “مملكة إسرائيل” بين حدود نهر الأردن شرقا وحدود البحر المتوسط غربا ومدينة عكا التابعة للفينيقيين شمالا ومدينة أريحا جنوبا، أما “مملكة يهوذا” فاقتصرت على أورشليم وحبرون وبئر السبع والنقب الوسيط، يحدها البحر الميت شرقا وبقيت “أدوم” في الجنوب متحدة معها مدة قصيرة، ولم تدخل فيها الدويلات الفلسطينية المحدة للبحر غربا وهي أشدود وعسقلان وغزة.

مملكة يهوذا ومملكة إسرائيل
مملكة يهوذا ومملكة إسرائيل

بهذه الانقسامات أُقفلت طرق التجارة بين الشمال والجنوب والشرق والغرب، فضاعت الأرزاق وقلت الأموال فضعف دخل الدولتين وقلت بذلك مقدرتهما على حفظ الكيان. 200 سنة قضتها الدولتان بمصارعة بعضهما البعض وتأليب الجيران الواحدة على الاخرى كما فصلت كتب التوراة ذلك، إلى أن قامت دولة آشور وزحف سرجون الثاني (ملك آشور من 722 – 705 ق.م) بجنوده من شمال العراق إلى “إسرائيل” فدخلها سنة 722 ق.م وأنهى تاريخ “إسرائيل” (دولة الشمال) فحاول سنحاريب (ابن سرجون الثاني) الاستيلاء على “دولة يهوذا” في الجنوب سنة 701 ق.م إلا أن الطاعون أحال بينه وبينها، فكتب بذلك لدولة “يهوذا” ان تعيش قرنا آخر.

وعندما قامت الإمبراطورية البابلية الثانية سنة 605 ق.م على يد نبوخذ نصر الثاني (أو بختنصر)، مد هذا الأخير جيوشه إلى الشام و”يهوذا” ووصل إلى حدود مصر بالتحديد في أرض غزة الحالية، وهزم فيما يعرف بمعركة غزة وذلك في عام 601 ق.م مما منع البابليين من التوغل إلى مصر، ولم يقم نبوخذ نصر بتدمير المدن التي كان يدخلها وأكتفى فقط بفرض الجزية عليها، ولكن بعد انسحاب المصريين من الأراضي الشامية بدأت تحرض الممالك الكنعانية ضد سلطة بابل عليها، فكانت مدينة عسقلان أول المدن التي عصت في سنة 604 ق.م، فقام نبوخذ نصر باحتلالها وسبى بعضا من سكانها وعين ملكا آخر عليها، ولم تقبل “مملكة يهوذا” أيضاً بدفع الجزية إلى بابل وقرر يهوياقيم ملك “يهوذا” العصيان على بابل، ففرض نبوخذ نصر الحصار على أورشليم عاصمة مملكة يهوذا وسبى بعضا من سكانها مع ملكهم يهويا كين في سنة 597 ق م، إلا أن نبوخذ نصر لم يسقط “مملكة يهوذا” وأقام صدقيا ابن الملك يهوياقيم مكانه ملك على “يهوذا”، إلا أن اليهوذيين قرروا العصيان مرة أخرى وبقيادة صدقيا وبدعم من المصريين، فقام البابليون في البداية بهزيمة المصريين الذين جاؤوا لمساعدة “يهوذا”، وبعدها اتجه البابليون لمحاربة “مملكة يهوذا”، فقام البابليون بحصارها سنة كاملة وبعدها تمكن نبوخذ نصر من اختراق مدينة أورشليم، فدخلوها وسبوا معظم سكانها ومنهم ملكهم صدقيا (الذي نصبه نبوخذ نصر ملكاً) وأحرقوا هيكل سليمان، وبهذا أنهى البابليون حكم سلالة داوود على “مملكة يهوذا” وذلك في عام587 ق.م.

خلال هذه الحقبة المهمة من تاريخ المملكتين، وهي حقبة المنفى البابلي، تشكلت معالم الدين اليهودي الذي نعرفه اليوم، حيث انقسم الشعب الإسرائيلي إلى ثلاثة أقسام:

  1. القسم الأول وهم سكان مملكة إسرائيل الذين يشكلون غالبية الحلف القبلي، وأغلبهم من الحنيفية الذين انصهروا مع شعوب مدين وسيناء، وعندما غزاهم الآشوريون تفرقوا بين تخوم مصر والبلاد المجاورة وأغلبهم دان لحكم الآشوريين واندمجوا في الأوطان والشعوب التي استقروا بها، وحتى في العهد البابلي استقروا في المدن البابلية واندمجوا في النسيج الاجتماعي والاقتصادي خصوصا ان حرية العبادة كانت مكفولة لهم
  2. القسم الثاني وهم العنصريون من سكان مملكة يهوذا ومملكة إسرائيل الذين أسروا وسيقوا إلى مدينة بابل، وهم نخبة شعب إسرائيل من الزعماء السياسيين ورجالات الدين والاقتصاد وقادة الجيش، فقد استقروا بالمنفى وكونوا وكتبوا غالبية التراث اليهودي الذي وصل إلينا اليوم من توراة وتلمود وغيرها من النظريات الصهيونية التي سوف نستعرضها لاحقا
  3. القسم الثالث وهم الذي خيروا دفع الجزية والبقاء بين خراب ممالكهم سواء في أورشليم او سائر المدن التي دمرها البابليون، وهم الذين سرت فيهم “الحركة المسيحية” التي تقول بمجيء المسيح المخلص لهم من هذا الدمار والاستعباد الذي لحق بهم

والقسم المهم من الأقسام الثلاثة هم أولئك النخبة الذين سيقوا إلى بابل، ولا شك أنهم خيرة مواطني المملكة، وأشد الناس حرصا على الكيان الإسرائيلي واليهوذي وحفاظا عليه، هذا وأن البابليين لم يتدخلوا في شؤونهم بل تركوهم وشأنهم ضمن المستعمرات التي أقاموها وخصصوها لهم، لذلك توافرت لديهم جميع المؤهلات والظروف للمحافظة على تراث مملكتهم ولاستمرار قيامهم بعاداتهم وشعائرهم.

ونشأ بين المنفيين في بابل زعيم روحي اسمه “حزقيال”، جاءت أثاره في الباب المسمى باسمه في الكتاب المقدس، وشرح حزقيال في فصول عديدة الهيكل الجديد الذي سيعيد الإسرائيليون بناءه، وفصّل الطقوس القربانية التي ظن أن لابد لهم من القيام بها عند العودة، وفي هذا الوقت بالذات وقع تحريف التاريخ الإسرائيلي القديم وأعيد كتابته، فالأسفار المعروفة باسم يوشع والقضاة وصمويل والملوك، وكذلك أسفار الأنبياء أرميا وإشعيا وغيرهم أعيد نظمها وتنسيقها في هذا العهد.

وفي هذا العهد أيضا وتحت تأثير أوضاع النفي، تأسست الكنيسة كنظام تعبدي وهي مازالت إلى يومنا هذا مؤسسة التعبد اليهودي الوحيدة، ذلك ان انقطاع المنفيين عن الهيكل (الذي دمره بختنصر) اضطرهم إلى التجمع في بناء ما للتعبد يوم السبت، وفي هذه التجمعات التف المنفيون حول كهنتهم الذين كانوا يتلون عليهم ما نقلوه من كتبهم وأدبهم الديني، وعن هذه التجمعات نشأت الكنائس كمؤسسات دينية ثم استمرت إلى ما بعد العودة.

وفي الحقيقة تكون المجتمع اليهودي تحت هذه الظروف فأصبح من الوجهة الدينية مجتمعا جديدا، كان في السابق مجتمعا يقوم حول طقس ديني  واحد، ألا وهو القربان في الهيكل الواحد الذي بناه لهم سليمان والذي كان لا بديل له، اما في المنفى فقد أصبح مجتمعا يقوم على التمسك بالتراث والقانون.

ولا غرو أن المنفى هو الذي سبب هذا الحرص الجديد على القانون، فيما ان “مملكة يهوذا” سقطت والهيكل هُدم والطقوس القربانية لم تعد تُقام، لم يبق لشعب إسرائيل مميز يميزهم عن بقية البشر، واستحال عليهم تعريف هويتهم بشكل فحوي، إذ لم تُعرف لهم هوية سوى الهوية الجغرافية “يهوذا” المنطوية عنها كلمة “يهودي” أي من بلد يهوذا، لذلك بادروا إلى القانون لتشريع هويتهم وجعلوا تنفيذ هذا التشريع وهذا القانون بحذافيره من شانه أن يحفظ ويثبت هويتهم[2].

يمكن اعتبار من خلال هذا التاريخ، تاريخ المنفى البابلي، انبعاث الدين اليهودي الذي وصل إلينا اليوم، سواء من خلال الكتاب المقدس (الذي كُتب أو حُرّف في هذا العهد) او من خلال التراث اليهودي الذي جُمع في التلمود، حتى كلمة يهودي والتي يُشار بها إلى “شعب مملكة يهوذا” عُرفت في المنفى ومن خلال تلك النخب التي اجتمعت على الحفاظ على ذلك التراث.

وعلى عكس ما قد يتبادر إلى الذهنية المسلمة، التي تستند في التعريف بالدين كل ما ثبت عن النبي الذي أرسله الله إلى ذلك الشعب أو القوم، فإن بني إسرائيل لم يتوارثوا عن موسى عليه السلام إلا “الصُّحف” أو الألواح التي جاء بها موسى عندما ذهب إلى ملاقاة ربه عند جبل طور سيناء، وكذلك كتاب الحلف القبلي، او المعاهدة التي تعاهد فيها موسى مع شعوب تلك المناطق في سيناء ومدين وشعوب الصحراء الذين اجتمعوا على الحنيفية أي على عبادة الله الواحد، وهذا الموروث من آل موسى وآل هارون جُمع في تابوت (صندىق طويل) نقله وجعله داوود في الهيكل، ولقد ذكره الله تعالى في القرآن عندما قال (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ۚ) 248 البقرة. وقال لهم نبيهم وهو صمويل أن آية مُلك طالوت الذي خلفه داوود في حكم شعب بني إسرائيل هو ذلك التابوت الذي أرجعه لهم الفلسطينيون بعد أن استحوذوا عليه في إحدى المعارك مع الإسرائيليين، ولقد شمل صحف موسى (فيه سكينة من ربكم) والعهد القبلي (وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون).

يتبع في الجزء الثاني سوف نستعرض الفرق بين التوراة والتلمود وأصل الصهيونية

المهدي بن حميدة
لوزان في 25 ماي 2022


[1] أصول الصهيونية في الدين اليهودي – إسماعيل راجي الفاروقي

[2] أصول الصهيونية في الدين اليهودي – إسماعيل راجي الفاروقي

المهدي بن حميدة

المهدي بن حميدة

العمر 55 سنة - متزوج وأب لثلاثة أطفال (بنتان وولد) - مقيم بسويسرا منذ 9 ماي 1992.
كاتب ومتابع للشأن السياسي والعربي والإسلامي - مدير شركة خاصة في الطباعة والتصميم والتوزيع.

أظهر كل المقالات