fbpx

السلاح ذو الحَدّيْن، أصل الداء في تونس هو في مناهج التعليم

المدرسة الصادقية والتعليم الزيتوني

التعليم بتونس إلى حدود 1958 كما ينقل لنا ذلك الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في كتابه “أليس الصّبح بقريب” هو ثلاث درجات، ابتدائية ومتوسطة وعالية، اما الابتدائية مبدؤها بالمكتب القرآني للخط والقراءة والرسم المصحفي وحفظ المتون، وهذا التعليم استمر جاريا على الحالة القديمة التي وصفها ابن خلدون منذ بداية الدولة الحفصية سنة 1574م، ومواضع التعليم كانت الكتاتيب للمبتدئين لتحفيظ القرآن وتعليم القراءة والكتابة، وقراءة العلوم الشرعية وعلوم العربية بالمساجد والجوامع وأشهرها وأكثرها قصدا جامع الزيتونة[1].

  • التعليم الصادقي والزيتوني بين 1875 – 1882

أمام مطالب الشعب بتغييرات إدارية جديدة وسحب الوزارة الكبرى من مصطفى خزندار ونقلها إلى أيادي أمينة، عيّن محمد الصادق باي أمير الأمراء خير الدين باشا على رأس الوزارة، فالتحق هذا الأخير بالوزارة الكبرى يوم 23 سبتمبر 1873.

أسس خير الدين باشا التونسي المدرسة الصادقية سنة 1875 وكانت عند تأسيسها تسمى “المكتب الجديد”، وكانت هذه المدرسة ثمرة تفكير النخبة التي التفت حول خير الدين بعد ثورة العربان مدة اعتزالهم بين 1862-1868، وجعل الوزير خير الدين للمدرسة الصادقية وقفا لا يقدر بثمن من هناشير الزياتين والحبوب والأراضي الصالحة للبناء، حيث بلغ رَيْعُ الأوقاف في بعض السنوات حوالي ربع مليون فرنك[2].

أما من حيث برامج التعليم فقد انقسم التعليم الصادقي في بداية تأسيس المدرسة إلى ثلاثة أقسام: – القسم الأول يتلقى فيه التلاميذ تعليما ابتدائيا باللغة العربية – القسم الثاني شبيه في محتواه وطرقه بما كان يلقى في جامع الزيتونة من دروس – اما القسم الثالث فقد كان التلامذة يلقنون فيه مبادئ العلوم الرياضية والطبيعية ويعلمون اللغات الأجنبية (التركية والفرنسية والإيطالية)، وفي الواقع كان التلامذة يمكنون من الاستفادة من نوعي التعليم التقليدي والعصري إن رغبوا في ذلك، وقد ضمن لهم هذا التكوين المزدوج الأمر المؤرخ في 5 ذي الحجة 1291 الموافق لـ13 جانفي 1875 الذي أنشا المدرسة الصادقية[3].

وتكونت لجنة لإصلاح التعليم في الجامع الأعظم حسب الأمر الصادر في الرائد التونسي بتاريخ 11 جوان 1874، وكانت تلك اللجنة مؤلفة من علماء من جامع الزيتونة تحت رئاسة الوزير خير الدين نفسه، فعكفت على تخطيط البرامج وضبط المناهج وترتيب الدرجات مع جعل المناهج في كل درجة مشتملة لزوما على مواد الرياضيات والطبيعيات، وقامت بتنظيم طريقة اختيار الأساتذة بواسطة المناظرات.

ونجح خير الدين نجاحا عظيما في تحقيق المراد من إنشاء الصادقية وإصلاح التعليم الزيتوني، بحيث أصبحت الشبيبة التونسية، على اختلاف منهجَيْ تعليمها، متأثرة بالمبادئ التي جاهد دعاة الإصلاح أربعين سنة في سبيلها، وأصبح من هذا التلاقي بين اتجاه الصّادقيين واتجاه الزيتونيين  الوزير خير الدين هو رائد الشبيبة وزعيمها، وأصبحت المبادئ الإصلاحية التي بسطها في كتابه[4] هي المثل الأعلى الذي يفادى الشباب في سبيله لتحقيق نهضة الوطن[5].

  • المدارس الفرنكو-عربية ومشروع لويس ماشويل

لغزارة المعنى وقوة الحجة في نقل التدابير ووصف المشاعر التي حفت باستعمال المستعمر الفرنسي للتعليم الزيتوني والصادقي، اللذان هما في الأصل يكملان بعضهما البعض في إرساء تعليم عربي إسلامي، من أجل إرساء تعليم فرنكو-عربي لطمس الهوية العربية والإسلامية للشعب، سوف أنقل بالحرف ما كتبه محمد الفاضل بن عاشور في كتابه “الحركة الفكرية والأدبية في تونس”، وهي شهادة للتاريخ لابد أن تُلقّن للأجيال الحاضرة واللاحقة:

لما بلغ الاضطراب السياسي والمالي غايتهما ونزلت بالبلاد الكارثة العظمى (كارثة الاحتلال الفرنسي سنة 1881)، كانت الأمة التونسية ترى في تلك المؤسسات الثقافية أقوى حلم لكيانها وأنقى مادة لتغذية روح الثبات فيها لتصمد في وجه ما يهددها من عوامل الفناء القومي، وكان الاستعمار الفرنسي يرى في تلك المؤسسات أعظم حائل بينه وبين ما يريد من تخدير الأمة ليبتلع سيادتها القومية ثم يبتلعها هي بذاتها، فإن يد العدوان الاستعماري قد امتدت في سرعة إلى تلك المؤسسات فدخلت الحرب الاستعمارية من أول يوم صميمها.

وفي 15 ماي 1883 أُسست إدارة العلوم والمعارف ووضع على رأسها فرنسي مستعرب من الناشئين في الجزائر هو لويس ماشويل[6]، فاستولى بتلك الصفة على جميع الأجهزة الثقافية والتعليمية، حتى تعليم جامع الزيتونة، وكان أول عمله أن أنشأ دارَ المعلمين لتكوين معلمين ابتدائيين للغة الفرنسية من التونسيين سماها المدرسة العلوية، وجعل المدرسة الصادقية معهدا يتهيأ فيه التلاميذ للالتحاق بدار المعلمين العلوية، ويكون تهيؤهم بتعليم اللغة الفرنسية على النهج الذي ابتكره لذلك، وهو منهج التعليم الفنكو-عربي الذي لم يزل إلى اليوم يفتك بناشئة العرب في المملكة التونسية.

وإذا كان هذا المنهج قد أبقى للمدرسة الصادقية مادة تعليم عربي ضئيل، فإنه قد قطع مادة الثقافة العربية بتاتا، إذ جعل اللغة الفرنسية أداة المعرفة العامة وأبقى اللغة العربية مادة تعليم لا تقصد إلا لذاتها على خلل فادح في طرائق تعليمها.

فانقطع بذلك حاضر الأمة عن ماضيها إذ أصبحت ثقافة أبنائها مكيفة بكيفية لا تستمد من عناصر ذاتها القومية، ثم قصد التعليم الزيتوني فقطع ما كان بينه وبين التعليم الصادقي من صلة، وأخلاه من مادة العلوم الكونية وأنشأ إلى جانبه معهدا لتخريج معلمي القرآن ومبادئ العربية، اقتصر فيه اللسان العربي على تعليم اللغة العربية والدين، وجعل تعليم التاريخ والجغرافيا والرياضيات والطبيعيات باللغة الفرنسية، فأصبحت اللغة الفرنسية الأداة للتعليم التونسي وسُدّت الوسائل على من لا يتعلمها دون الوصول إلى تكوين ثقافة حية، وبذلك انهار الكيان الثقافي للبلاد انهيارا تاما زاد عليه ما طغى على النفوس من روح الهزيمة والشعور بالنقص[7].

أصل الداء في تونس يكمن في مناهج التعليم

لو اردنا تشخيص الداء في تونس لقلنا انه منذ الحركة الإصلاحية الأولى نهاية القرن 19 على يد المصلح خير الدين التونسي وثلة من الإصلاحيين معه، الذين حاولوا جاهدين الاقتباس من الغرب في شتى العلوم والمعارف والمهارات مع الاحتفاظ بثوابت الهوية العربية والإسلامية وعلى رأسها اللغة العربية وعلوم الشريعة، كما عملوا على إنجاز وتحقيق قفزة نوعية في مجال الحكم عبر سن دستور للبلاد كان الأول في العالم الإسلامي.

ثم ما لبثت ان فشلت تلك التجربة الدستورية التي لم تصمد سوى 3 سنوات (1861-1864) تلتها حقبة استعمارية فرض وبسط فيها المستعمر الفرنسي جنوده وحشد إليها بعض نخبه وأقلامهم من اجل مسخ الهوية العربية والمعالم الإسلامية لشعوب تلك الديار (تونس، الجزائر).

ولقد استأثر المستعمر الفرنسي بالمؤسسات العلمية الموجودة، وعلى رأسها الجامع العظم جامع الزيتونة والمدرسة الصادقية، لكي يغمد سلاحه (اللغة والثقافة الفرنسية) في عمق ذلك الجراح ويبث سمومه من خلال تقسيم المؤسسات التعليمية بين متقدم قابل للتطوير وهي المدرسة الصادقية، ومتأخر غير قابل للتطوير وهو التعليم العربي الإسلامي المتمثل في جامع الزيتونة.

ومن هنا جاء مشروع لويس ماشويل الذي عمل على تكثيف المواد الفرنسية في المدرسة الصادقية وتهميش المواد العربية[8]، ثم والأخطر من ذلك فقد عمل هذا الرجل على تعميم تلك المدارس الفرنكو-عربية وتشييد المدارس الفرنسية في أغلب الولايات حيث وصل تعداد المدارس الابتدائية (بين مدارس فرنكو-عربية[9] ومدارس فرنسية[10]) في حدود سنة 1925 إلى 397 مدرسة ضمت 22.455 تلميذ وتلميذة من المسلمين، دون اعتبار للجاليات الفرنسية والإيطالية والإسرائيلية وغيرها[11]، في حين ظلت السلطات الاستعمارية ماضية في سياسة تهميش الشهائد المدرسية للزيتونيين وتجاهل مطالبهم من اجل إصلاح تعليمهم.

هذه الوضعية ازدادت سوءًا بعد أن نجحت النخب التونسية، التي درست بالمدرسة الصادقية ثم التحقت بالتعليم الجامعي في فرنسا، في الحصول على وثيقة “استقلال” مكنتها من فرض خيارات فرنسا وبسط مشاريعها الثقافية والتعليمية على كامل التراب التونسي دون أدنى مقاومة، بل مغلفة بغلاف “الاستقلال” وبناء “الدولة الوطنية الحديثة”.

ولئن كان خير الدين التونسي وجماعته عارفين وواعين بالمقصد الحقيقي لبعث وإنشاء المدرسة الصادقية، وهي توفير الإطارات والكفاءات التي تحتاجها الدولة في مجالات محددة، وهي العلوم الحديثة والجيش والحربية والبحرية والهندسة الصناعية في القطاعات الحساسة للبلاد، مع حرصهم على تلقي هذه النخب الحد الكافي من الثقافة الإسلامية والمهارة في اللغة العربية الشيء الذي يربط هذه النخب بجذورها وحفاظها على هويتها.

فلم يقصد خير الدين تعميم النموذج التعليمي الصادقي، وإنما قصد ملأ الفراغ الحاصل في البلاد من كوادر وعلوم، وعمل في مقابل ذلك، بإصدار مرسوم احمد باشا باي المؤرخ في 27 رمضان 1258 هـ الموافق للأول من نوفمبر 1842، على إدخال إصلاحات مهمة في التعليم الزيتوني وهو اول مرسوم جعل من التعليم الزيتوني تعليما رسميا للدولة وتحت إشرافها ورعايتها، ثم جاء خير الدين فيما بعد ونظم الأحباس المتعلقة بجرايات المدرسين ونفقات الطلبة ضمن تراتيب 28 ذي القعدة 1292 هـ الموافق لـ27 نوفمبر 1875 في عهد محمد الصادق باي.

نستطيع ان نقول أن النموذج الإصلاحي للمدرسة الصادقية، على أول إنشائها، كان على شاكلة المعاهد النموذجية أو متعددة الاختصاصات التي منوط بها مد البلاد بما تحتاجه من إطارات فنية في مجالات واختصاصات محددة، كالمدرسة متعددة الاختصاصات « EPFL+Z » بسويسرا التي يوجد منها اثنان، واحدة بلوزان والثانية بزوريخ لتمد البلاد بهندسيين وخبراء وباحثين في اختصاصات دقيقة تتميز بها سويسرا على سائر الدول، طبعا ليس هناك مجال للمقارنة بين المدرسة الصادقية، التي هي مدرسة ثانوية وشهادتها تعادل شهادة الباكالوريا في أحسن الأحوال، وبين المعاهد متعددة الاختصاصات الحديثة « écoles polytechniques » وهي معاهد جامعية وبحثية مثل التي هي بمدينة لوزان السويسرية، ولكن المقصد من ذكر هذا النموذج من المدارس هو من المحال تعميم هذا النوع من المدارس وجعله تعليما شعبيا موحدا وعاما منتشرا على طول البلاد وعرضها.

فالخطأ الذي وقعت فيه النخب التي مسكت زمام الحكم بعد 20 مارس 1956 هو استغناؤها عن التعليم العربي الإسلامي[12] واكتفاؤها بتعميم النموذج الصادقي على كامل تراب البلاد، والتعليم الصادقي نوعان، نوع على الذي أسسه خير الدين التونسي وجماعته، ونوع على الذي أرساه لويس ماشويل بعد أن اجتاحت الجيوش الفرنسية البلاد، وهذا النموذج الأخير، مع تعديل في تعريب التعليم الابتدائي وقسم من التعليم الثانوي تحت ضغط النخب الزيتونية والشارع[13]، هو الذي اعتمده بورقيبة في توحيد التعليم و تعميمه.

ولقد شكل هذا الخطأ الكبير مفصل الداء وبداية انكسار المسار التنموي للبلاد الذي عانينا ولازلنا نعاني من آثاره المدمرة على الفرد والمجتمع والدولة إلى اليوم، وسوف تظل آثار وثمار هذا الخطأ الفادح تمتد إلى أجيال أخرى، حتى يأتي من يوقف النزيف ويصلح العباد والبلاد بوضعها على قاطرة المصالحة مع ذاتها وتاريخها وموروثها العلمي واللغوي والديني.

المهدي بن حميدة
في 21 سبتمبر 2021


[1]  مأخوذ من كتاب “أليس الصبح بقريب” للشيخ محمد الطاهر بن عاشور

[2]  كانت ميزانية تونس وقتها تقدر بـ10 ملايين فرنك.

[3]  “المدرسة الصادقية والصادقيون” تأليف وتعريب د. أحمد عبد السلام – بيت الحكمة قرطاج – الطبعة الأولى 1994.

[4]  كتاب “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك” الذي ألفه خير الدين التونسي خلال فترة اعتزاله (1862-1868) وطبعه سنة 1867.

[5]  محمد الفاضل بن عاشور، “الحركة الفكرية والأدبية في تونس” ص 48 – الطبعة الأولى 2009 – بيت الحكمة.

[6] ولد بالجزائر في 1 جوان 1848 بعد أن استُقدم أبوه من فرنسا ليشغل خطة مدير للمدرسة الفنكو-عربية بمدينة قسنطينة. أدخله أبوه إلى الكتّاب لتعلم العربية ثم دخل معهد الجزائر ليكتمل بذلك تعليمه الفرنسي، مع تمكنه من لغة العرب وحفظه ما تيسر من كتاب المسلمين (القرآن). قدم إلى تونس سنة 1880 للقيام بدراسة استطلاعية حول جامع الزيتونة والمدرسة الصادقية، ونظرا لعلاقته المتينة معPaul Cambon  (المقيم العام الأول لفرنسا في تونس خلال الفترة 1882-1886) فقد ولاه هذا الأخير مهمة الإشراف على قطاع التعليم في المستعمرة الجديدة تونس. مات في 11 أوت 1922 ودفن بمقبرة رادس في قبر على الطراز المغربي مع آية من القرآن في مقدمة الكتاب.

[7]  محمد الفاضل بن عاشور، “الحركة الفكرية والأدبية في تونس” ص 53-54، الطبعة الأولى 2009 – بيت الحكمة.

[8]  ذكر الفاضل بن عاشور في كتابه “الحركة الفكرية والأدبية في تونس” ص 53-54، الطبعة الأولى 2009 – ما نصه: “وإذا كان هذا المنهج قد أبقى للمدرسة الصادقية مادة تعليم عربي ضئيل، فإنه قد قطع مادة الثقافة العربية بتاتا، إذ جعل اللغة الفرنسية أداة المعرفة العامة وأبقى اللغة العربية مادة تعليم لا تقصد إلا لذاتها على خلل فادح في طرائق تعليمها”.

[9] Écoles franco-arabes

[10] Écoles primaires élémentaires

[11] Rapport au Président de la République française sur la situation de la Tunisie en 1925, Bibliothèque du Ministère des Affaires étrangères, 2012-277214

[12]  راجع وثيقة ” إصلاح التعليم في تونس” – كتابة الدولة للإخبار والإرشاد – 1960

[13]  راجع وثيقة “من قضايا التعليم في تونس” – الصادرة عن نقابات المدارس الثانوية الزيتونية – 1958

المهدي بن حميدة

المهدي بن حميدة

العمر 55 سنة - متزوج وأب لثلاثة أطفال (بنتان وولد) - مقيم بسويسرا منذ 9 ماي 1992.
كاتب ومتابع للشأن السياسي والعربي والإسلامي - مدير شركة خاصة في الطباعة والتصميم والتوزيع.

أظهر كل المقالات