fbpx

الانتخابات والهوية الوطنية في تونس

نحن في تونس نعيش تجاذبات وتمايزات ليس على أساس برامج الأحزاب، ولكن على أساس تموقعات أيديولوجية وهوياتية لكل طرف، فالناخب في تونس عندما يذهب (وكما ذهب للتصويت في 2011 و2014 وحتى في 2018) للتصويت في الانتخابات القادمة 2019 سوف لن يركز في مبررات اختياره على برنامج كل حزب، هذا إن وجدنا برامج لهاته الأحزاب، وإنما سوف تتصدر القضايا الهوياتية المرتبة الأولى لاختيارات الناخب.

تونس بعد الثورة بلا شك في بداية مرحلة جديدة من البناء التعددي المتمثل في إرساء المؤسسات الدستورية ونشر الثقافة الديمقراطية، وفي الديمقراطيات العريقة تأسست العملية الانتخابية (التي هي شرط في العملية الديمقراطية ولكنها ليست كلها) على أساس البرامج، بعد أن حُسمت قضية الهوية الوطنية لكل دولة، إلا أننا في تونس مازلنا نعيش مرحلة ما قبل الوصول إلى النقطة الموحدة لكل التونسيين أو ما يسمى “بالهوية الوطنية”، لذلك كل بلدان الغرب (الذي يطبق الديمقراطية الحقيقية ويمارس عملية الانتخاب على أساس البرامج) يحتفلون باليوم الوطني (fête nationale) ونحن مازلنا نحتفل بـ”عيد الاستقلال” المزيف ولكننا مازلنا بعيدين عن الوحدة الوطنية.

فمنذ بداية القرن التاسع عشر بدأت قضية الهوية عند التونسيين تأخذ بعدا وطنيا وذلك بتمايزها عن الخلافة العثمانية في ظل حكم محمد باشا باي، الذي ولئن أبقى الولاء والطاعة “لخليفة المسلمين” إلا أنه استأثر بالحكم لصالح العائلة الحسينية التي قررت الاستقواء بالغرب (فرنسا أساسا). ولقد حاول المصلح خير الدين باشا انتهاج سياسة إصلاحية توفيقية تعتمد على المناهج الأوروبية في النهضة وذلك بامتلاك العلوم العصرية ونشر المعرفة وتطوير الجيش وفي نفس الوقت عدم التفويت في الظهير الاستراتيجي العسكري و”الديني” وهو “الخليفة” العثماني.

ولقد استمر المصلحون من بعد خير الدين باشا على نفس ذلك النهج، حتى بعد اندثار “الخلافة” العثمانية كقوة سياسية وعسكرية سنة 1924 إلا أن المرجعية والولاء والطاعة، عند عموم النخب السياسية (الحزب الحر الدستوري القديم) والعلمية (الزيتونيين) وعامة الشعب، بقيت ولو رمزيا متمثلة في “الخليفة” الغائب، إلى أن جاء بورقيبة (الحزب الحر الدستوري الجديد) وحسم هذه المعركة لصالح الحليف الاستراتيجي الجديد وهو الغرب عموما وفرنسا تحديدا.

ولئن بدت الأمور قد حُسمت لصالح أنصار “البدائل الغربية” إلا أن هذه المعركة ظلت محتدمة بين الطرفين، الطرف المتوجه غربا نحو فرنسا والغرب (بورقيبة وفصائل اليسار)، والطرف المتعلق بالشرق العربي والإسلامي (الزيتونيون)، وأول مظاهر هذا الاختلاف كان الانشقاق اليوسفي المدعوم زيتونيا على بورقيبة (1955)، ثم وبعد انتصار الشق البورقيبي على اليوسفيين (1961)، برز هذا الاختلاف الهووي (وليس السياسي) من جديد على يد الحركة الإسلامية (1981) التي حركت الشارع وكسبت الجامعة على أساس “الهوية الإسلامية” (الإسلام السياسي).

ولقد كانت الجامعة التونسية طيلة سنوات الثمانينيات من القرن الماضي تعكس هذا الصراع على الأساس الهووي والثقافي والأيديولوجي بين مختلف فصائلها، ولم تكن البرامج الاقتصادية والاجتماعية والثقافية هي محور الاختلاف والتبادل بين التيارات الفكرية الطلابية. ولو أردنا تقسيم هذا الاختلاف والصراع على أساس الجذع الأصلي لوجدنا تيارين فكريين يهيمنان على الجامعة وعلى الساحة الفكرية والسياسية في البلاد اليوم:

  • أولا: التيارات العلمانية بمختلف مدارسها والمتمثلة في اليسار بكل فصائله والقوميين بكل فصائلهم والبورقيبيين (وليس الدساترة) والليبراليين
  • ثانيا: التيارات الإسلامية بكل فصائلها وبعض الوجوه المستقلة من بقايا الزيتونيين وبعض الحقوقيين النزهاء الذين استطاعوا (بفضل تربيتهم الحقوقية) الانتصار لحقوق الإنسان\الضعيف على حساب الإنسان المستعلي\الغربي

فالصراعات الفكرية في تونس وعملية الاستقطاب السياسي منذ القرن التاسع عشر تُبنى على معطيات وأحداث ذات صبغة أيديولوجية صِرْفة (الموقف من الآستانة\الأتراك في عهد الإصلاحيين، قضية التجنيس في عهد الحركة الوطنية، مسألة التدين عند الحركة الإسلامية، المساواة في الميراث وحقوق المثليين بعد الثورة،…)، لذلك الأحزاب الصغيرة والتي سواء ليس لها بُعد أيديولوجي\هُووي أو تتعمد عدم الخوض في هذه المسائل لتتجنب أن توضع في خانة التموقع الأيديولوجي هي أحزاب خاسرة للمعركة الانتخابية القادمة إن لم تصطف مع أحزاب أخرى وتشكل جبهة أيديولجية.

كما أن أحزابا فاشلة منذ الثورة (النهضة والتجمع\النداء\تحيا تونس) يمكن أن تتحصل على نسبة هامة من الأصوات، لأن المقياس في تونس ليس البرامج، ومعيار اختيار الناخب ليس النجاح أو الفشل وإنما الاصطفاف الأيديولوجي حول القضايا الهوياتية الكبرى هو الذي سوف يجعل من هذه الأحزاب الفاشلة تتحصل على نسبة هامة من الأصوات.

وفي الختام أقول إن هذه المعركة الهوياتية، التي لم تُحسم في النموذج السياسي للدولة (رئاسي أم برلماني) فما بالك أن تكون قد حُسمت على مستوى الهوية الوطنية للتونسيين، هذه المعركة سوف تطول لأجيال أخرى، ويوم يتأكد التونسيون والتونسيات من حسن اختيارهم للطرف الأيديولوجي\الوطني الذي سوف يحقق لهم الهوية التونسية التي يريدون، عندها سوف يحل الأمن مقابل الإرهاب (الفكري والإعلامي) وينتقل التونسي في اختياراته الانتخابية إلى مرحلة الاعتماد على البرامج التفصيلية للأحزاب كسائر دول العالم الديمقراطي المستقرة.

المهدي بن حميدة
في 19 مارس 2019

المهدي بن حميدة

المهدي بن حميدة

العمر 55 سنة - متزوج وأب لثلاثة أطفال (بنتان وولد) - مقيم بسويسرا منذ 9 ماي 1992.
كاتب ومتابع للشأن السياسي والعربي والإسلامي - مدير شركة خاصة في الطباعة والتصميم والتوزيع.

أظهر كل المقالات