fbpx

1967-1987: عشرون سنة في الجماعة المسجديّة

  • المهدي بن حميدة الكاتب: المهدي بن حميدة
  • الجمعة 5 جمادى الأولى 1440 الموافق لـ 11 يناير 2019
  • 0
  • 1638 مشاهدة
مظهر خارجي لجامع التوبة بالمعمورة

النشأة والتعليم الابتدائي

في بداية صائفة سنة 1967 الأول من شهر جوان تحديدا ولما ثقل الحمل بأمي صوفية بنت حمزة الصيد أرسلها والدي إلى المعمورة (تبعد عن مدينة نابل 8 كلم) لكي تلدني هناك، ولم يتبق عن العطلة الصيفية إلا أسبوعان، وفي ليلة 20 جوان من هذه السنة 1967، وكانت ليلة المولد النبوي الشريف، ولدت بمنزلنا الكائن بالمراح (ساحة الجمهورية) واستقبلتني عند الولادة شلبية أم عبد القادر سلامة (رنيست) رحهما الله وشددت شلبية على أن تسميني “المولدي” لمولدي ليلة المَوْلد، ولما التحق أبي بعد أسبوع وجدهم سموني “المولدي” فأبى وسماني المهدي، وكنت أول من يسمى المهدي بالمعمورة.

عاد الوالد والوالدة إلى سيدي بوزيد بعد انتهاء عطلة تلك الصائفة التي ولدت فيها، ونشأت أربع سنوات من طفولتي هناك في قرى وأرياف سيدي بوزيد بين تلك الربوع الهادئة ووسط تلك الأزهار الفائحة والعسل المصفى ومراعي المواشي بعيدا عن ضوضاء المدينة ووسائل الحضارة. حتى سنة 1972 لما جاءت بشرى نقلة والدي إلى المدرسة الابتدائية ببئر شلوف وسط مدينة نابل، عاد أبي في تلك الصائفة إلى المعمورة ليذبح خروفا فرحا بتلك النقلة، حيث أمضى بقية عمره المهني في تلك المدرسة.

الوالد مع مراد والمهدي وإكرام في عيد الفطر سنة 1972
الوالد مع مراد والمهدي وإكرام في عيد الفطر سنة 1972

نشأت بداية من سنتي الخامسة بين أقراني من أطفال المراح المجاور للمسجد وكان القلب النابض للبلدة، حيث شعرت منذ الطفولة في بداية السبعينيات من القرن الماضي بتلك العلاقة الوطيدة التي جمعتني بمسجد المعمورة (الجامع القديم) وأنا أحفظ القرآن في العطل الصيفية عند المؤدب الصادق بن حميدة رحمه الله، لما كان الكتّاب داخل الجامع يفتح على الصحن وخارج بيت الصلاة، ولما عجز الصادق بن حميدة عن إمامة المصلين (بسبب المرض) أخذ مكانه والدي محمد بن حميدة سنة 1979 كإمام خمس وظل الصادق بن حميدة يقرأ القرآن بالمسجد قبل كل صلاة بشكل دائم حتى يختمه ثم يبدأ من الفاتحة ثم البقرة وهكذا دون انقطاع حتى توفاه الأجل في فيفري من سنة .1992

مازلت أتذكر ذلك اليوم الذي توزعت فيه الأعلام الحمراء رايات الوطن على طول الشارع الرئيسي للبلدة من مدخلها إلى الشاطئ، والمعمورة على أبهى مظهرها والناس على ضفتي الطريق يمينا وشمالا ينتظرون ضيفا فوق العادة، ذهبت إلى المدرسة ككل صباح، مدرستي الحبيبة والوحيدة بالبلدة آنذاك، مدرسة ابن سينا، وفي ذاك اليوم من سنة 1973، السنة التي دخلت فيها المدرسة وعمري ست سنين، لم يكن يوما عاديا بالمرّة، إذ لم ندخل الفصل كما جرت العادة بل صففنا طاقم المدرسة على ضفة الطريق المقابل للمدرسة وأعطونا كل واحد علما أحمر مشدودا بعود صغير وبحركات الطفل العفوية ظللنا نرفرف بذلك العلم إلى أن مر أمامنا موكب مهيب يتوسطه أناس يسرعون.

لم يتبق لي من ذلك الموكب إلا مشهد الحبيب بورقيبة وهو يمتطي حصانا أبيض وقصاصات صغيرة من الوراق المتناثر عليه تذروها الرياح فتصلنا من كل مكان، تلك كانت الصورة الأولى التي ربطتني بالمدرسة، اما الصورة الثانية فتتعلق بمدير المدرسة السيد محمود بن هندة الذي كان يأتيني للفصل ويطلب مني أن أمر عليه بالمكتب قبل الرجوع للمنزل، ثم يجلسني على كرسي بمكتبه ويعطيني أوراقا شفافة ويطلب مني أن أرسم له مشاهد للكتاب الذي هو بصدد تأليفه، وبعد يومين او ثلاث أعود ومعي الرسومات.

طيلة أيامي الدراسية بالمدرسة الابتدائية علقت بذاكرتي بعض الأحداث والتواريخ، أما الأحداث فهي وفاة خالي المنذر سنة 1977 وهو لم يتجاوز سن 17 من عمره وصعود المنتخب الوطني لكرة القدم لتصفيات كأس العالم بالأرجنتين سنة 1978، وأما التاريخ فهو أصداء الثورة الإيرانية سنة 1979 والتي كنت لا أفهم منها الشيء الكثير سوى أني أدركت من خلال النقاشات الحادة التي كنت أحضرها بشكل عفوي وسط البلدة بين بعض الشباب والمثقفين أنه حدث غير عادي.

نجحت امتحان “السيزيام” سنة 1980، وفي تلك الصائفة رسّمني والدي صحبة أخي مراد بمعهد خاص بنابل لدراسة الرياضيات وهي المادة الرئيسية في تعلمينا الثانوي الذي انا بصدد التحضير له وكان أخي مراد قد سبقني إليه بسنة، حيث دخلت المعهد الثانوي ببني خيار في تلك السنة وهي السنة الأولى التي يفتح فيها المعهد أبوابه وكان عدد قاعات التدريس فيه لا تتجاوز الخمس قاعات جاهزة والأخرى بصدد الإنجاز كلها بالطابق الأرضي، والأراضي الزراعية تحد المعهد الغير مسيّج من كل مكان وكنا نسلك الطريق الغير معبدة التي توصلنا للمعهد وسط الفلاحين والمزارعين.

كان قسمي السنة أولى علوم صحبة ثلة من التلاميذ والتلميذات من المعمورة وبني خيار والصمعة وديار بن سالم الذين مازالت تربطني بهم صداقة خاصة إلى اليوم، حيث نجحت سنتي الأولى بشهادة شكر وخلال العطلة الصيفية اصطحبت ابن عمي لمساعدة والده الهادي بن حميدة رحمه الله الذي كان يشتغل دهانا بالبلدة، ومع مرور بضعة أيام اكتشف عمي أن لي إقبالا على العمل وشغوفا بالدهن فصرنا نشتغل معه بانتظام نذهب كل صباح ونرتاح في القيلولة ثم نعود مساء للبيت منهكين، ولتشجيعنا أعطانا أجرة قيمتها 3 دنانير كل أسبوع يعطينا إياها كل ليلة خميس، ومنذ تلك الصائفة لم أتوقف عن الشغل في الدهن إلا لما انتقلت إلى الجامعة وكان دخلي اليومي ناهز الـ10 دنانير في اليوم.

في السنة التي حصلت فيها الثورة الإيرانية (سنة 1979) والتي كان لها صدى كبيرا عند المتدينين والمثقفين بالبلدة ومع مقتل الرئيس المصري أنور السادات سنة 1981 لإبرامه معاهدة صلح مع الكيان الصهيوني وما تبعها من ردود فعل الشارع التونسي أحسست به وأدركته في سن الثالثة عشرة من العمر، عندئذ بدأت أعي بالمحيط من حولي وانتبهت إلى وجود مجموعة من الشباب الملتزم بالمسجد، وظللت أحضر حلقاتهم مرة وأغيب عنها مرات حيث كان مجموعة من الشباب يبقون بالمسجد يتدارسون مواضيع دينية من الحلال والحرام والسنة والمندوب والمكروه، وكان فيهم محمد الجميل، زهير مخلوف، مراد بن حميدة، صالح البناي، وآخرون.

كما لا يمكنني أن أنسى تلك العناوين الحمراء الكبرى التي تصدّرت الجرائد في ذات سنة 1981 حيث وجدت أبي يقرأ يوما جريدة الصباح وعليها عنوانا أحمر كبيرا على طول الصفحة “الديمقراطية”! سألت أبي ماهي الديمقراطية؟ فتمتم بكلمات لم أفهم منها شيئا سوى أنني فهمت أنه هو في حد ذاته لم يفهم معنى هذه الكلمة، وكان أبي زيتونيا عروبيا ويعتبر من طبقة “المثقفين” في البلدة. ثم بعد أشهر قليلة فهمت أنها الفترة التي رفع فيها محمد مزالي (الوزير الأول آنذاك) شعار الانفتاح، فنُظّمت في نوفمبر 1981 أول انتخابات تشريعية تعددية كان الحزب الأبرز المعارض فيها هو حزب “حركة الديمقراطيين الاشتراكيين”[1]، إلا أن تزوير تلك الانتخابات حال دون دخول المعارضة البرلمان.

صورة لمجموعة من الإخوة التقطت بمناسبة عرس الأخ محمد الجميل سنة 1982
صورة لمجموعة من الإخوة التقطت بمناسبة عرس الأخ محمد الجميل سنة 1982: من اليمين أخ من خارج المعمورة، صالح البناي، محمد الجميل، المنصف بن سليمان، زهير مخلوف، مراد بن حميدة، محمد المؤدب، توفيق الشاوش، محمد الفن، توفيق الشاوش الثاني ولطفي الشاوش.

ومما ساعد في اختلاطي بذلك الجيل من الشباب من مواليد بداية الستينيات، مساعدة والدي إمام المسجد في الاعتناء بالمكتبة وخزانتها التي مازالت موجودة إلى اليوم في بيت الصلاة والتي كانت تضم كتبا أدبية ودينية حيث كنت أسهر، بعد صلاة العشاء، على تنظيم اقتناء الكتب وإرجاعها لهؤلاء الشباب المتديّن والمقبل على المطالعة بعد أن يعطيني والدي المفتاح ثم أرده إليه بعد أن أعود في آخر الليل.

لقد كان المسجد يضم المكتبة التي كوّنها جيل العشرينيات من القرن الماضي ضمن نشاط “جمعية النهوض الأدبي” التي تأسست في 20 فيفري 1947 على يد ثلة من الطلبة الزيتونيين، جاء في وثيقة التأسيس:” وجعلنا من انخراط هاته الجمعية تأسيس مكتبة بالبلاد وإعانة التلميذ الفقير وتثقيف الأهالي بالقيام بدروس ليلية يلقيها بعض الطلبة والقيام ببعض الروايات إن أمكن ذلك”[2].

وشاءت الأقدار أن يكون الامتداد والتواصل بين جيل الزيتونيين والإسلاميين من هذا الجيل عبر هذه المكتبة التي نمّت البعد الأدبي والديني لدى شباب وشابات البلدة وساعدت تلاميذ الباكالوريا آداب على التألق والنجاح في دراستهم، ثم انتقلت تلك الكتب فيما بعد إلى المقر المقابل لباب المسجد ليتسنّى للجميع الاستفادة من المكتبة دون الدخول إلى قاعة الصلاة، ثم حُوّلت تلك الكتب إلى المكتبة العمومية المعروفة اليوم.

في صائفة سنة 1976 بدأت الوالدة تدرس الخياطة بنابل وهي فقرة لا يفوتني ذكرها لما لها من أهمية اقتصادية في حياتنا اليومية وعلى المستوى المعيشي للعائلة ككل، حيث لم يكن راتب الوالد يكفي لتلبية حاجياتنا المدرسية أمام مواصلته في تسديد ديون البناء، فدخلت معه الوالدة على الخط لدعم المالية بعد تحصّلها على دبلوم الخياطة برتبة متفوّقة، وظلت تمارس مهنة الخياطة منذ تلك السنة ثم انحصر شغلها في “الطّريزة” إلى اليوم.

[1]   الذي يتزعمه السيد أحمد المستيري عضو الديوان السياسي واللجنة المركزية والمنفصل عن الحزب الاشتراكي الدستوري بقرار من بورقيبة في جانفي سنة 1972

[2]   رسالة مخطوطة كتبها رئيس الجمعية محمد الزياني (القاضي) بتاريخ 9  ماي 1947

المهدي بن حميدة

المهدي بن حميدة

العمر 55 سنة - متزوج وأب لثلاثة أطفال (بنتان وولد) - مقيم بسويسرا منذ 9 ماي 1992.
كاتب ومتابع للشأن السياسي والعربي والإسلامي - مدير شركة خاصة في الطباعة والتصميم والتوزيع.

أظهر كل المقالات