fbpx

الفقه المقاصدي: محاولة في الفهم للحوار الأخير للأستاذ قيس سعيد

  • المهدي بن حميدة الكاتب: المهدي بن حميدة
  • السبت 6 جمادى الأولى 1440 الموافق لـ 12 يناير 2019
  • 0
  • 552 مشاهدة
قيس سعيد

الحقيقة نحن كشعب تونسي مثقف وغير مثقف متعلم وغير متعلم، لم نتعود على سماع خطاب سياسي بذلك المستوى من أكاديمي (أستاذ جامعي) مختص في القانون الدستوري، وأقصى ما تعودنا على سماعه هو الخطاب السياسي والقانوني لبورقيبة وهو محامي، يعني مختص في القانون الخاص وسوف نشرح فيما بعد الفرق بين القانون الخاص والقانون الدستوري لنوضح للمواطن العادي ما يجب عليه فهمه ولكي نضع حوار الأستاذ قيس سعيد في سياقه العلمي والمجتمعي.

القانون الدستوري والقانون الخاص

الأستاذ قيس سعيد هو مختص في القانون الدستوري، والقانون الدستوري يُعنى بمفهوم الدولة وعناصرها أو أركانها وآليات سيرها الداخلي من حيث طبيعة نظامها السياسي المحدد ضمن وثيقتها الدستورية، كما أن القانون الدستوري هو الذي يبين نظام الحكم، ويبين تنظيم السلطات العامة واختصاصاتها وكذلك يبين حقوق وحريات الأفراد في نظام سياسي حر، هذا هو ببساطة وعجالة مجالات اختصاص القانون الدستوري بدون الدخول في شتى المدارس واختلافاتها.

والعلم بالقانون الدستوري عادة ما يتلاقى ويتقاطع مع علم السياسة الذي يدرس الظاهرة السياسية من مختلف جوانبها بما في ذلك الفاعلين السياسيين، أي الدولة وهيئاتها: الحكومة، البرلمان، الأحزاب السياسية، جماعات الضغط، وكذا السلوك السياسي لكل المتدخلين في العملية السياسية: الأفراد، الجماعات، المؤسسات الرسمية والغير رسمية.

والأستاذ قيس سعيد ليس بالمحامي (مثل بورقيبة والباجي قايد السبسي) الذي يُعنى بالقانون الخاص، والقانون الخاص هو القانون الذي ينظم العلاقة بين الأفراد أو بينهم وبين الدولة باعتبارها شخصا عاديا، والقانون الخاص ينقسم إلى عدة فروع منها القانون المدني والقانون التجاري والقانون الدولي الخاص، وقانون الإجراءات المدنية وغيرهم.

فهمنا إذن مجال اختصاص الأستاذ قيس سعيد والفرق بين تخصصه وتخصص باقي الرؤساء الذين حكموا الشعب التونسي وهما بورقيبة والباجي(*)، وهذا الفرق يساعدنا على فهم ما يطرحه قيس سعيد في برنامجه ويجعلنا نتفاعل معه ومع مشروعه بوعي وإدراك لخطورة وحساسية المرحلة التي تمر بها تونس بعد الثورة، وأهمية كلمة الشعب والحراك الشعبي في هذه المرحلة الحساسة من تحديد مستقبل تونس.

تحقيق مقاصد الدستور والمقصد من الحكم

قال تعالى في سورة النساء (وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ 58) وقال في سورة النحل (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ 76)، إذ المقصد الأول من الحكم هو العدل وإقامة العدل بين الناس هذا هو جوهر الحكم والمقصد الأعلى من الحكم، وسواء كان هذا الحكم بمعنى القضاء أو أي سلطة قضائية (الحكم بين الناس) أو الحكم بمعنى إصدار الأوامر والقرارات والقوانين بمعنى السلطة التشريعية والتنفيذية (الأمر) ومنها جاء مصطلح ولاة الأمور في الفقه الإسلامي القديم، أي كل من تولى “أمرا” (مسؤولية) من أمور الناس (هموم الناس وقضاياهم).

ولتقريب الصورة للمواطن فيما يتعلق بالمواضيع التي ركز عليها قيس سعيد في برنامجه الذي جعل له شعارا “الشعب يريد”، فقد ورد في الفقه الدستوري ثلاثة معايير (بشأن تعريف القانون الدستوري) وهي المعيار اللغوي والمعيار الشكلي والمعيار الموضوعي.

وبمقتضى المعيار الأخير (المعيار الموضوعي) يقوم تعريف القانون الدستوري وفقاً لهذا المعيار على أساس الموضوع الذي تعالجه القاعدة القانونية دون اعتبار للشكل والاجراءات المتبعة في إصدارها، بمعنى آخر أن هذا المعيار لا ينظر إلى وثيقة الدستور بل ينظر إلى ما هو دستوري من حيث الموضوع سواء كان منصوص عليه في وثيقة الدستور أم لا. فقيس سعيد وطبقا لهذه القاعدة (قاعدة المعيار الموضوعي) فقد قلب المفاهيم رأسا على عقب فيما يخص الديمقراطية الشكلية إلى الديمقراطية الموضوعية أو بلغة أدق ديمقراطية تحقيق المصلحة.

المقصد من الديمقراطية

جاء في تعريف الديمقراطية أنها حكم الشعب بالشعب لصالح الشعب، ولقد جاءت الأنظمة الديمقراطية (خلال الحقبة اليونانية القديمة أو خلال القرن التاسع عشر في الغرب) كبديل عن أنظمة الحكم المؤبدة، من أجل التداول السلمي على السلطة ولكي يحكم النَّاسَ أكفأهم، هذا هو جوهر الديمقراطية والمقصد الأول منها. ومن خلال الفهم المقاصدي نفهم أن الديمقراطية شيء والحكم شيء آخر، إذ الديمقراطية آلية من آليات الحكم ووسيلة من أجل تحقيق الحوكمة الرشيدة من أجل تحقيق مقصد واحد وهو العدل.

ولقد شهدت بعض الأنظمة الملوكية المؤبدة والوراثية على مدى التاريخ حكما عادلا، إذ تحقق مقصد العدل بالأنظمة المؤبدة كما تحقق بالأنظمة الديمقراطية، وكما ليس بشرط على الأنظمة المؤبدة أن تكون جائرة ليس بشرط كذلك على الأنظمة الديمقراطية أن تكون عادلة، نفهم من هذا أن وسيلة الحكم شيء (الديمقراطية) والمقصد من الحكم (العدل) شيء آخر يختلف تماما.

وإذا تدبّرنا في هذا الأمر فإن فقه المقاصد يحولنا على مسألة مهمة وهي أن الديمقراطية لم تأت لتحقيق العدل، وإنما جاءت لتحقيق مبدأ مهم في أصول الحَوْكمة الرشيدة وهي التداول السلمي على السلطة، كما أن تطبيق الديمقراطية في أعلى مُثُلها وقيمها تمكن من تولية خيار الناس وأكفأهم على الناس، وبالتالي يصعب عدم تحقيق العدل إذا حكّمنا خيار الناس وأكفأ الناس.

المقصد من السياسة

ما هي السياسة ؟ السياسة لغة من فعل ساسَ يسُوسُ، أَسُوسُ، سُسْ، والمصدر سِيَاسَةٌ، وساسَ الدَّوَابَّ : اِهْتَمَّ بِتَرْبِيَتِهَا وَتَرْوِيضِهَا والاعْتِنَاءِ بِهَا و سَاسَ أُمورَ النَّاسِ بِالحَقِّ : تَدَبَّرَهَا، تَوَلَّى تَدْبِيرَهَا وَتصْرِيفَهَا.

أما اصطلاحا فقد تعددت المفاهيم لهذا المصطلح ولكني سوف أسوِق التعريف الأكثر رواجا بين التونسيين في زماننا هذا بأن “السياسة هي فن الممكن”، يعني اتخاذ الطريقة والأسلوب الأكثر إمكانية للنجاح والمرور بسلام وبأقل الأضرار، ونفهم من هذا المفهوم أن السياسة هي أسلوب وطريقة في اتخاذ القرار (وليس فقط الحكم) إذ هناك سياسة ومناهج سياسية للشركات الاقتصادية الكبرى وليس بالضرورة أن تُستعمل السياسة في الحكم بمفهوم الدولة.

فالسياسة هي الطريقة والأسلوب الأمثل لتدبّر شؤون الناس ولكنها تصب في مقصد واحد وهو الحكم بالعدل، فالسياسة ليست مقصدا بذاته ولكنه أسلوب ومنهج وطريقة من أجل تحقيق المقصد الأكبر من الحكم وهو العدل.

الفقه المقاصدي لدى قيس سعيد

فقيس سعيد لم يرتبط بالشكل، سواء شكل الديمقراطية أو شكل الحكم أو شكل الدولة أو شكل اتخاذ القرار داخل هيئات ومؤسسات الدولة، بل نفذ إلى روح النص\الدستور لكي يعالج ويصل إلى هموم المواطن من تشغيل وتحقيق كرامة المواطن في الحصول على الحد الأدنى من مقومات العيش الكريم، وانطلق من المواطن\الشعب لكي يصل إلى هرم السلطة.

لذلك بدى المرشَّح قيس سعيد متجاوزا بل ضاربا في الصميم اللغة الخشبية المعتادة لزعماء الأحزاب والسياسيين الذين تعاقبوا على المشهد العام منذ الثورة، وبدى للناخب صادقا ينقل مشاعرهم ويتحدث عن همومهم لأنه لم يتقيد بالبروتوكولات أو بما أسميها “ديبلوماسية الأحزاب” التي جعلتهم يخشون بعضهم البعض ويداهنون بعضهم البعض ليقتسموا كعكة السلطة فيما بينهم ولا يفسد واحد على الآخر النفاذ لكرسي الحكم فوجدوا أنفسهم (بعد 8 سنوات من الحكم) هم في وادي والشعب في وادي.

قيس سعيد واستمرارية الدولة

فقيس سعيد ليس بظاهرة كما زعم ذلك بعض المثقفين والسياسيين بل هو روح وضمير الناخب الواعي والمدرك لهموم بلده، قيس سعيد هو نتيجة الصندوق الذي مل الأحزاب واللغة الخشبية للأحزاب وصراع والتناطح الحزبي والأيديولوجي للأحزاب من جهة.

ومن جهة ثانية قيس سعيد هو مشروع ثوري ونظرية في الحكم انبثقت من خلال حوارات داخل شباب تونس الغير متحزب، وهو مشروع في الحكم انطلق من الواقع المر والكارثي والمأساوي للشعب\الحطام (كما عبر عنه هو) للشعب التونسي لكي يكسر صنم الأحزاب ويتجاور سجن النص.

وفي نفس الوقت ضمن قيس سعيد استمرارية الدولة في التزاماتها الدولية وفي استقلال إدارتها واستقلال قضائها وتثبيت مكاسبها التي حققتها على مدى تاريخها، مكاسبها في الصحة والتعليم وحقوق الطفل وحقوق المرأة وحسن الجوار، ودعا إلى مزيد تطويرها لكي يتطلع إلى أن تملك تونس ديبلوماسية الموقف القوي والاقتصاد الصلب والمجتمع المتماسك والدولة المهابة في الداخل والخارج.

بل تجاوز قيس سعيد الخطاب السياسي التقليدي وتكلم عن الأخلاق السياسية من خلال دعوته جميع الأحزاب إلى الإقلاع عن حرب المصالح والمكاسب الحزبية الضيقة إلى تحقيق الإجماع الوطني من أجل دعم المكاسب الوطنية والحفاظ على الثروات الوطنية وتحقيق الحلم الوطني المنشود من خلال الأجيال القادة ووعد بتعبيد الطريق (طريق الدولة القوية والمتماسكة) لتنفيذ إرادة الناخب وتحقيق شعار “الشعب يريد”.

—————————-

(*) طبعا بن علي قفز إلى السلطة في غفلة من أهلها عبر انقلاب عسكري وهو رجل عسكري ومخابراتي لا يفهم في الدساتير والقوانين والسلط.

المهدي بن حميدة

المهدي بن حميدة

العمر 55 سنة - متزوج وأب لثلاثة أطفال (بنتان وولد) - مقيم بسويسرا منذ 9 ماي 1992.
كاتب ومتابع للشأن السياسي والعربي والإسلامي - مدير شركة خاصة في الطباعة والتصميم والتوزيع.

أظهر كل المقالات