fbpx

الحب والكره (الصفاء والجفاء)

لقد دعوت منذ بضع سنين إلى إعادة تبويب الفقه الإسلامي وإلغاء التقسيم الفقهي المقام على أساس الجنس (المرأة/الرجل) واعتماد التقسيم على أساس الحاكم والمحكوم. فتخصيص أبواب ومباحث للفقه في علاقة بالمرأة هو من باب المغالطة والتهويل، حيث تتفرد المرأة في الفقه ببعض الجزئيات (فقه الطهارة أو العبادات أو المواريث) التي لا تتطلب هذا التقسيم، وإنما كل الفقه ومقاصد الشريعة تُبنى على أساس آخر غير الذكورية والأنوثة.

فكما ذكر كثير من المعاصرين أن العدل هو المقصد الأكبر للشريعة الإسلامية، فقد جاء في آيات قرآنية عديدة الأمر بالعدل من مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} النحل/90، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} النساء/58 وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} المائدة/8 وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ…} النساء/135، وقوله تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ…} الشورى/15

والعدل ليس جبلة أو فطرة فطر الله الناس عليها، وإنما جبلت النفس على حب الشهوات وحب الحياة وحب النفس وحب الأهل والعشيرة والأقارب والأولاد والأموال والزينة، وكل هذه الشهوات تمنع العدل وتجلب الظلم، وإنما طريق العدل هو طريق مشقة واجتهاد ومجاهدة وعلم وتعلم، قال تعالى (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) العنكبوت

وهنا تكلم العلماء على سبل منع الجور كأقرب وأقصر طريق لتحقيق العدل، ومن سُبُل منع الجور هو الأنظمة السياسية الحديثة من الديمقراطية وفصل السلطات وحرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة والنشر وحرية التنظم في شكل أحزاب ومجتمع مدني، وسلطات رقابة وقوى ضغط وغيرها من التنظيمات الحديثة التي تؤسس للحوكمة الرشيدة وتحقق العدل وتمنع الظلم.

والشريعة الإسلامية من فقه عبادات ومعاملات وتشريعات لم تؤسس ولم تؤصل حكما واحدا يمنع الظلم ويحقق العدل، وإنما هي أوامر وفضائل وأخلاقيات ومُثل عليا بقيت في طور النظرية ولم ترقى إلى أحكام وقوانين زجرية إجرائية تمنع الحاكم من أن يظلم وتنتصر للمظلوم وترد له حقوقه في الدنيا قبل الآخرة.

ومن أوكد واجبات الفقه اليوم هو تأصيل مبادئ في منع الجور وضمان تحقيق العدل وذلك بإصدار تشريعات وأحكام تمنع الحاكم من الظلم وتساعده على العدل، ولتحقيق ذلك لأبد من تخصيص فقه خاص بالحاكم وآخر خاص بالمحكومين، بحيث تصبح كل مباحث الفقه الإسلامي من عبادات ومعاملات وفضائل الأخلاق مقامة على هذا التقسيم وليس على غيره.

وفي إطار مراجعة فكرنا الإسلامي في علاقة بفقه الحاكم والمحكوم فقد اخترت أن أتكلم في الحب والمحبوب والكره والمكروه وتنزيلهما في الشأن العام (السياسة) والشأن الخاص (الإيمان).

1- في الإيمان: الشأن الخاص

جاء في الحديث عن أنس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ) رواه البخاري ومسلم.

وفي تتمة لهذا الحديث، عن عبد الله بن هشام قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء، إلا من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك ) فقال له عمر : فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الآن يا عمر ) رواه البخاري.

فقد دل هذا الحديث أن اكتمال إيمان المرء مرتبط باكتمال حب المؤمن للنبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي (ص) يُحَبُّ لذاته وصفاته وخَلقه وخُلُقه وأخلاقه، ولا إيمان مُكتملا إلا بحب النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أن يتكلم ومن بعد أن يتكلم، وذلك هو الإيمان.

والمؤمن يحب أيضا أخاه المؤمن، ومن أحب أخا له (والأخت إذا أحبت أختا لها) فليقل له (ولتقل لها) إني أحبك، كما جاء عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه : ( أَنَّ رَجُلًا كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنِّي لَأُحِبُّ هَذَا . فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَعْلَمْتَهُ ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : أَعْلِمْهُ . قَالَ : فَلَحِقَهُ فَقَالَ : إِنِّي أُحِبُّكَ فِي اللَّهِ . فَقَالَ : أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي لَهُ) رواه أبو داود وصححه النووي وحسنه الألباني.

وفي العلاقة التي تربط المواطن بأخيه المواطن دون اشتراط الإيمان، قال تعالى (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) الممتحنة.

ومن الولاية الحب والمحبة، فالذي يُقاسمك الوطن والإخلاص للوطن وإن خالفك العقيدة فلا وجوب لحبه ولكن لا داعي لكرهه (البرّ والقسط) والمحبة مسبقة على الكره إن لم يوجد مسوغ لعدم الحب.

2- في السياسة: الشأن العام

عندي أخ لي من أمي وأبي امتهن حرفة الدهن منذ 30 سنة وأصبح مقاولا ذاع صيته في جهتي، سألته مرة عن أسباب نجاحه وشهرته في مهنته، فقال لي من جملة ما قال: عندما تؤجر أحدا ليعمل معك يجب أن يكرهك منذ اليوم الأول كشرط لنجاح عملك، فصدمني بكلامه وظلت كلمة “الكره” تلك تجول بخاطري.

ثم تجولت بضع سنين في مجال نقد الممارسة السياسية عندنا نحن العرب والمسلمين، فتذكرت ذلك “الكره” الذي حدثني عنه أخي فخلُصت، بعد سباحة في كوم الكتب التي بحوزتي، إلى أن من شروط نجاح الحَوْكمة وممارسة الحكم بصفة عامة وعند العرب خاصة هو كره الحاكم، لكني سألطف من كلمة “الكره” لأستعمل كلمة “الجفاء”، وهو موضوع مقالي هذا الذي هو تتمة للجزء الأول في الحب والصفاء.

ولقد زخرت كتب التاريخ والتراث الإسلامي بالوقائع والأحداث التي تكلمت عن هذا الجفاء بين الأمراء (أمراء بني أمية وبني العباس) وبين العلماء والصالحين، ولقد كتب هارون الرشيد (149 هـ – 193 هـ) عند توليه الإمارة/الخلافة إلى صديقه سفيان الثوري وكان بينه وبينه صحبة، بعد أن زاره العلماء بأسرهم إلا سفيان الثوري لم يأته، فكتب إليه الرشيد كتابا يستعطفه فيه ويطلب فيه وده وزيارته، وَمِمَّا جاء في هذا الكتاب ما يلي: “… وقد كتبت كتابا مني إليك أُعلِّمكم بالشوق الشديد إليك، وقد علمتَ يا أبا عبد الله ما جاء في فضل زيارة المؤمن ومواصلته، فإذا ورد عليك كتابي فالعجل العجل”.

ولما دخل عُبَّاد الطالقاني بكتاب الرشيد على سفيان الثوري في مسجده بالكوفة فهم هذا الأخير الأمر فاستعوذ وقام يصلي ولم يكن وقت صلاة وترك صاحب الرسالة واقفا ينتظر ولم يفسح له بالجلوس أيا من أصحاب سفيان الذين يجلسون مجلسه، ولما فرغ سفيان من الصلاة التفت فوجد الرسالة على الأرض ألقاها عُبَّاد من بعيد لما أصابه من الرعدة من هيبة سفيان وأصحابه، ولما فرغ سفيان من قراءة الكتاب قال لأصحابه: “اقلبوه واكتبوا للظالم على ظهره”، فقيل له: يا أبا عبد الله إنه خليفة، فَلَو كتبت له في بياض نقي لكان أحسن.

قال: “اكتبوا للظالم في ظهر كتابه، فإن اكتسبه من حلال فسوف يُجيز به وإن اكتسبه من حرام فسوف يصلي به ولا يبقى شيء مسّه ظالم بيده عندنا فيفسد علينا ديننا”، ومما كتب له في رده ما يلي: “بِسْم الله الرحمن الرحيم، من العبد الميت سفيان إلى العبد المغرور بالآمال هارون، الذي سُلب حلاوة الإيمان ولذة قراءة القرآن، أما بعد: فإني كتبت إليك أعلمك أني قد صرمت حبلك وقطعت ودك،… يا هارون قعدت على السرير ولبست الحرير وأسدلت ستورا دون بابك وتشبهت بالحجبة برب العالمين ثم أقعدت أجنادك الظلمة دون بابك وتركتهم يظلمون الناس ولا يُنصفون ويشربون الخمر ويحدون الشارب ويزنون ويحدون الزاني ويسرقون ويقطعون السارق ويقتلون ويقتلون القاتل… فاتق الله يا هارون في رعيتك واعلم أن هذا الأمر لم يصر إليك إلا وهو صائر إلى غيرك من بعدك ومنهم من خسر دنياه وآخرته، وإياك إياك أن تكتب إلي بعد هذا، فإني لا أجيبك والسلام”. وألقى الكتاب منشورا من غير طَي ولا ختم.

هذا الجفاء الغير مبرر لخليفة استلم الحكم في أول خلافته فهمه سفيان الثوري (وآخرين من الصالحين) ولم يفهمه كثير من العلماء الذين اختاروا مشاركة الخليفة مجالسه، فكان تأثير رسالة سفيان الثوري وغيره على الرشيد أشد وأبلغ من مشاركة بقية العلماء لمجلس الخليفة، ومنها الحكمة من الموضوع.

فالجفاء في حق المسؤول السياسي هو من باب منع الجور والظلم وهو أنفع للحاكم والمسؤول من أن تشاركه مجلسه وتوده في كلامه، وهذه الخصلة في الجفاء قليل من الأحزاب والنخب من يعمل بها في أيامنا هذه، بينما المودة مع الحاكم مجلبة للجور والفساد بطبيعة البشر كما شرحت وبينت ذلك في الجزء الأول من هذا المقال.

المهدي بن حميدة
في 30 ماي 2019
الموافق لـ25 رمضان 1440 هـ

المهدي بن حميدة

المهدي بن حميدة

العمر 55 سنة - متزوج وأب لثلاثة أطفال (بنتان وولد) - مقيم بسويسرا منذ 9 ماي 1992.
كاتب ومتابع للشأن السياسي والعربي والإسلامي - مدير شركة خاصة في الطباعة والتصميم والتوزيع.

أظهر كل المقالات