fbpx

فرنسا والأزمة مع الإسلام: قراءة في الخطاب الأخير للرئيس الفرنسي ماكرون

في خطاب يوم الجمعة 2 أكتوبر 2020، ذكر الرئيس الفرنسي إيمانوال ماكرون لفظ “أن الإسلام دين يعيش أزمة ليس في فرنسا فحسب بل في العالم أجمع”، ولكي أكون دقيقا فسوف أنقل اللفظ باللغة الفرنسية كما نطق به ماكرون: «L’islam est une religion qui vit une crise aujourd’hui partout dans le monde».

إذن اللفظ واضح ولا يحتمل التأويل، فلم يقل رئيس فرنسا أن البلدان الإسلامية أو الشعوب المسلمة أو الدول الإسلامية تعيش أزمة، ولكنه ذكر “دين الإسلام” ووصفه بأنه يعيش أزمة.

والمضحك في كامل الخطاب (الذي دام 67 دقيقة دون أسئلة الصحفيين) أنه لم يتعرض البتة إلى أركان الإسلام الخمسة التي هي مناط الدين وركائزه، وإنما طرح خمسة أركان من أجل “استفاقة الجمهورية” كما قال، ولإنقاذ اللائكية والجمهورية الفرنسية، يعني أن العلمانية الفرنسية والجمهورية الفرنسية هي التي تعيش أزمة وليس الإسلام كدين.

وفي إشارة لأزمة “الدين الإسلامي” ذكر ماكرون مثال “الصديقة تونس” حسب تعبيره (التي تُعد من أكثر البلدان الإسلامية تعلما وتقدما بحسب وصفه)، التي لم تكن تعاني من “تطبيق الإسلام” منذ 30 سنة مضت، مثلما تعاني منه اليوم، والظاهر بحسب المثال الذي ذكره الرئيس الفرنسي أنه يقصد “المد الإسلامي” (في إشارة إلى الصحوة الإسلامية في تونس) وليس الإسلام كدين، لأن الدين الإسلامي يحكم تونس منذ 14 قرنا وليس خلال الثلاثين سنة الأخيرة.

الانفصالية الإسلامية

لقد تخلل مدخل الخطاب بعض التواضع وذلك بالاعتراف بأخطاء جسيمة قامت بها فرنسا خلال العقود الأخيرة، ساهمت هذه الأخطاء، في انتعاش “الانفصالية الإسلامية” (le séparatisme islamiste) حسب تعبيره، وهذه الأخطاء هي: اعتماد الجمهورية الفرنسية لنظام “الأحياء المعزولة” (les ghettos) تجاه المسحوقين من العرب والمسلمين والمهاجرين عموما، ثم التاريخ الاستعماري لفرنسا الذي لم يراجع سجل الدول التي كانت ضحية لهذا الاستعمار.

وفي تذكير بالتاريخ الاستعماري لفرنسا، فقد ذكر ماكرون المثال الجزائري، وأن فرنسا لم تستطع طي صفحة جرائمها في الجزائر، وأن هذا التاريخ الاستعماري استعمله “الانفصاليون الإسلاميون” في فرنسا لكي يوغلوا قلوب الشباب ويحرضوا الأجيال المسحوقة تجاه “الجمهورية الفرنسية” من أجل سحقها ودك أركانها.

و”الانفصالية الإسلامية” هو مصطلح ماكروني جاء به الرئيس الفرنسي ليعبر من خلاله عن الأفراد والمجموعات والجمعيات التي تنتسب إلى الجماعات الإسلامية المتطرفة التي تحاول التمرد على القوانين والأنظمة المنظمة للجمهورية.

وقد خص ماكرون بالذكر المدارس والجماعات الإسلامية التي تشكل خطرا على فرنسا وعلى العلمانية الفرنسية، وهي “الوهابية” و”السلفية” و”الإخوان المسلمون”، وذكر ماكرون أن فرنسا لا تعترف “بالإسلام السياسي”، لأن الخلفية الفلسفية للعلمانية الفرنسية لا تقبل بأن يكون الدّين كأحد مكونات الدولة، وخصوصا الدين الإسلامي، وهي قراءة فرنسية لا تتوافق بالضرورة مع العلمانية الأنجلوسكسونية.

استفاقة الجمهورية

ثم من أجل “استفاقة الجمهورية” (le réveil républicain)، طرح الرئيس الفرنسي خمسة محاور ضمن خطة اعتكف على إعدادها مجموعة من الخبراء وبعض أعضاء حكومته ضمن برنامج حكمه منذ 3 سنوات وسوف يكون مادة إعلامية وسياسية خلال حملته الانتخابية القادمة (الانتخابات الرئاسية في أفريل-ماي 2022) لكي يتطلب هذا البرنامج السنين اللاحقة لتطبيقه واعتماده كنظام وقانون للجمهورية على غرار قانون 1905 (القانون الفرنسي لسنة 1905 الذي فصل الكنيسة عن الدولة والذي نظم اللائكية أو العلمانية الفرنسية في ما يتعلق بالأديان والمعتقدات).

المحور الأول:

يقترح الرئيس الفرنسي ماكرون تطوير القوانين والنظم ذات العلاقة بالنظام والأمن العام والعمل على تحييد الإدارة والموظفين العموميين والخواص، وذكر أمثلة عن “خروقات” (des dérives) سجّلت في عديد المحافظات، مثل امتناع المحجبات عن الكشف عن هوياتهن خلال حملات التفقد في وسائل النقل العمومي، وامتناع بعض المسلمين عن متابعة حصص الموسيقى والسباحة لأبنائهن وبناتهن بالمدارس، وكذلك حمل الموظفين العموميين المسلمين لـ”إشارات” دينية والقيام بممارسات دينية (لم يذكر الصلاة لكن اكتفى بوصف ذلك بالخروقات) وهم يرتدون زي الدولة من شرطة وموظفين بالمطارات وغيرهم.

المحور الثاني:

تطوير قانون الجمعيات من أجل وضع حد للجمعيات التلقينية (doctrinaires) النشطة في مجالات عدة، والتي تتعارض أنشطتها مع شعارات الدولة والجمهورية والعلمانية، والقانون الحالي يخول حل الجمعيات التي تستعمل العنصرية ومعاداة السامية والتمييز ضد المرأة، ويطالب ماكرون بتطوير هذا القانون ليشمل انتهاك والتعرض للأشخاص في ذممهم وأجسادهم.

وأولى الرئيس الفرنسي أهمية قصوى في هذا الموضوع لقضية التمويل الخارجي لبعض الجمعيات، والمقصود بها الجمعيات الإسلامية أو الهيئات التي تقف وراءها وتمولها دول ذات وازع تبشيري (prosélytisme) بالإسلام، وأنه سوف يكون في المستقبل رقابة من الدولة لهذه الجمعيات ثم تشدد في تطبيق واحترام قوانين الجمهورية ثم عقوبات فمنع في حال وجود خروقات.

المحور الثالث:

تطوير والاعتناء بالمدارس والتعليم من أجل ترسيخ مبادئ العلمانية والديمقراطية، وذلك بمنع “بعض” المدارس الخصوصية ومراجعة نظم التدريس عن بعد (CNED)، وذكر ماركون أن 50 ألف طفل يتلقون تعليمهم بالمنازل (المدارس المنزلية)، وأن بعض هذه المدارس تم غلقها خلال الأشهر الماضية والتي وُجدت فيها معلمات منقبات وتلاميذ وتلميذات يدرسون القرآن واللغة العربية ويتعلمون الصلاة في أماكن مغلقة.

وفيما يتعلق بالمدارس القنصلية التي تدرّس اللغات الأجنبية، ضمن اتفاقية (ELCO) والتي تخص 9 دول وهي الجزائر، كرواتيا، إسبانيا، إيطاليا، المغرب، البرتغال، صربيا، تونس وتركيا… اكتفى ماكرون بذكر مثال المغرب والجزائر وتركيا فقط، وأن هذه المدارس القنصلية سوف تخضع مستقبلا لرقابة الدولة.

وبعد قانون 1905 الذي يفرض علمانية التدريس، ثم قانون 1969 الذي يفرض نظام الاختلاط بين الإناث والذكور، أعلن ماكرون عن نيته تخفيض السن القانونية لوجوب دخول المدارس إلى سن الثالثة (عوضا عن أربع سنوات حاليا) وذلك ابتداء من 2021، يعني مزيد من “افتكاك” الدولة للأطفال من آبائهم منذ سن الثالثة لضمان “صياغة” الطفل صياغة علمانية تحت ذريعة “الخروقات” (les dérives).

المحور الرابع:

وضع نظم وقوانين بالشراكة مع ممثلي الديانة الإسلامية (المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية CFCM) من أجل بلورة “إسلام تنويري” (تراجع عن مصطلح “إسلام فرنسا” بعد أن وجهت له انتقادات حول هذه التسمية)، يهدف إلى “مساعدة هذا الدين” (الإسلام) على تنظيم نفسه حسب تعبيره، والهدف من هذه الخطوة هو إيجاد سلم تمثيلي للديانة الإسلامية (hiérarchie) تمثل دين الإسلام، من أئمة وقادة دينيين على غرار الكنيسة من قديسين وبابوات وغيرها من الألقاب الدينية المعروفة في كل الديانات.

وذكر ماكرون أن الديانات الأخرى تستطيع أن تهيكل نفسها بحكم طبيعتها وتاريخها، ولكن ذلك لا يتوفر في الإسلام، علما أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي ليس له رتب ومراتب دينية سوى الترتيب والتصنيف العلمي (العالم، الفقيه، المفتي،…) الذي لا يستند إلى أي تمثيل للمسلمين، حتى الإمام هو مخصوص بقيادة المسلمين أثناء الصلاة فقط ولكن لا يمثلهم في الحياة العامة، والمفتي هو هيئة إفتاء فقهية تقدم لهم الفتوى ولكن ليس لها أي صفة تمثيلية.

يساعد هذا المشروع على تحرير الإسلام في فرنسا من التدخلات الخارجية والتي تتمثل في تدخلات بالتمويل وتدخلات بإرسال أئمة وخطباء -خصوصا خلال شهر رمضان- من دول مثل الجزائر والمغرب وتركيا، وهو ما عبر عنه ماكرون “بالإسلام القنصلي”، وأن الرئيس ماكرون تطرق لهذا الموضوع مع رؤساء هذه الدول الثلاث بشكل ودي وأن هذا الموضوع سوف يتوقف وأبدت هذه الدول تفهما حول هذه المسألة حسب ذكره.

وينص المشروع على تخصيص 10 مليون أورو من الدولة من أجل تكوين أئمة وواعظين ومنح شهائد لهم معترف بها من قبل الدولة، بعد إمضاء ميثاق ينظم هذه العلاقة، كما يهدف المشروع إلى إرساء تعليم جامعي وتخصص أكاديمي حول الإسلام والحضارة الإسلامية واللغة العربية والفلسفة لابن رشد وعلوم الاجتماع لابن خلدون من أجل إيجاد سلّم وظيفي (structure) يسهّل على الدولة التخاطب مع المسلمين من خلالهم، وتحمل الدولة المسؤولية لهؤلاء في حال وجود إشكالات وظيفية.

كما يفوت هذا المشروع الفرصة على الأفراد والمجموعات أصحاب “الإسلام السياسي” الذين يستغلون الظروف الحالية وهذا الفراغ في غياب الدولة من أجل تبليغ “رسالتهم” وتلقين الشباب مبادئهم التي تعمل على تقويض الدولة وزعزعة أركان الجمهورية حسب تصوره.

المحور الخامس:

العمل على “حب فرنسا” وحب الجمهورية الفرنسية، وذلك ببناء نسيج مؤسساتي على مستوى المحافظات والمحليات لمزيد الاعتناء بالمهمشين والمحرومين والتي تخلت عنهم وداست عليهم قوانين الجمهورية خلال العقود الماضية.

وأكد ماكرون أن الحب لا يُفرض بالقوانين والمراسيم، ولكن بتقديم الخدمات للمحرومين والذين شعروا بالضيم والظلم والنسيان من القبل الجمهورية طيلة العقود التي خلت، ولعل هذا هو جوهر الموضوع الذي كان على الرئيس الفرنسي وعلى الدولة أن تجعله في سلم أولوياتها، فـ”الانفصالية الإسلامية” هي أن يقع التعامل مع العرب والمسلمين بازدواجية المكاييل والتمييز والحرمان من الشغل والمناصب اعتبارا للون بشرتهم ولون شعرهم أو لزيهم ولغتهم، ولعل الجماعات المتطرفة التي وصفها الرئيس الفرنسي بـ”الجماعات الانفصالية” هي نتيجة تمييز الدولة في حقهم وعدم المساواة في التعامل معهم كمواطنين كاملي الحقوق والواجبات تحت ظل “العلمانية” و”الجمهورية”.

هذا مجمل الأركان الخمسة التي طرحها الرئيس الفرنسي للتعبير على أن “الدين الإسلامي يعيش أزمة”. فواضح أنه لم يتعرض لأركان الإسلام الخمسة وإنما طرح خمسة أركان للتعبير عن الأزمة العميقة التي تعيشها “العلمانية والجمهورية الفرنسية” وذلك بسحقها للمكون الديني والثقافي واللغوي لدى أجيال المهاجرين والأجانب على مدى عقود والمقصود بهم المسلمون المغاربة الذين ينتسبون إلى دول شمال أفريقيا (تونس، الجزائر والمغرب).

هذا دون الإشارة إلى عدم تعرضه البتة للمشاكل الحقيقة التي تعيشها فرنسا من “أزمة السترات الصفراء” إلى أزمة “فيروس كورونا” إلى أزمة الاتحاد الأوروبي وغيرها من الأزمات الاقتصادية والمجتمعية الحادة والعميقة التي تعاني منها فرنسا وأوروبا عموما.

والحقيقة التي حاول التهرب من ذكرها الرئيس ماكرون هو أن دولا إسلامية (وعلى رأسها تونس التي استشهد بها ماكرون كصديق لفرنسا) وليس الإسلام كدين، تشهد منذ 2011 مخاضا وولادة عسيرة من أجل التحرر من بقايا النظم الاستعمارية والثقافية الفرنسية التي تحكمت بدول شمال أفريقيا (التي تنحدر منها أغلب الأجيال المسلمة في فرنسا) على مدى عقود.

وأن دولا أخرى مثل ليبيا ودولا إفريقية بدأت تعبر عن انعتاقها من الهيمنة الفرنسية والثقافة الفرنسية والحلول العسكرية والثقافية لفرنسا، التي أثبتت فشلها في القارة الأفريقية، كما أن التراشق الأخير بين الرئيس التركي أردوغان وماكرون أثبت قلة احترام بعض زعماء العالم تجاه فرنسا وفقدان هذه الأخيرة تلك “الهيمنة الاستعمارية” التي دأبت عليها منذ أزيد من قرنين.

الخلاصة

خلاصة خطاب الرئيس ماكرون أن فرنسا تعيش أزمة هوية عميقة في التعامل مع الوافد من أجيال المهاجرين ذوو الأصول الإسلامية وهو ما لا يوجد مع “العلمانية الأنجلوسكسونية” في بريطانيا وكندا والولايات والمتحدة الأمريكية، وأن فرنسا لم تستطع أن توفق بين “دين” الوافدين العرب المسلمين وبين “قوانين العلمانية اليعقوبية الفرنسية” التي نظمتها فيما سمي بقانون سنة 1905، وأن هذا القانون تعامل مع الديانات الأوروبية من كاثوليكية وبروتستانتية ويهودية، ولكنه لم يتأقلم مع الإسلام كدين وافد جديد، أو مع الوافدين العرب والمغاربة الذين ولدوا على الأراضي الفرنسية وتلقوا تعليما فرنسيا وانتسبوا إلى الجمهورية.

كما أن الرئيس الفرنسي ماكرون استعصت عليه المشاكل العديدة والمتعددة التي تواجهه منذ بداية فترة حكمه في 2017، من السترات الصفراء إلى موضوع البطالة في صفوف الشباب إلى المشاكل الاقتصادية العميقة، وحصر فشله في هذا الخطاب الانتخابي في المسلمين والإسلام في فرنسا متخذا ذلك برنامجا دعائيا لحملته الانتخابية القادمة.

المهدي بن حميدة
في 3 أكتوبر 2020

المهدي بن حميدة

المهدي بن حميدة

العمر 55 سنة - متزوج وأب لثلاثة أطفال (بنتان وولد) - مقيم بسويسرا منذ 9 ماي 1992.
كاتب ومتابع للشأن السياسي والعربي والإسلامي - مدير شركة خاصة في الطباعة والتصميم والتوزيع.

أظهر كل المقالات