fbpx

الإصلاح المخطط والإصلاح السريع في تونس منذ القرن 19

منذ 1830 ونحن نسلك طريقا في الإصلاح ما يكاد يرتفع بناؤه قليلا حتى يسقط وينهار وتظهر مظاهر الغضب الشعبي (الثورات الشعبية في 1864 و2011) لتأتي عليه وتثبت زيف طريق الإصلاح وسطحيته، وإلى يومنا هذا وتونس تتخبط بين حركات الإصلاح المخطط التي ظلت محصورة في المثقفين والمفكرين والحركات الأيديولوجية (الإسلامية)، والإصلاح السريع التي تزعمها رجال السياسة والأحزاب والنقابات.

ماذا حصل في 1830؟ في هذه السنة وقع احتلال الجزائر من قبل فرنسا، وقد تقل لي ما دخل تونس في احتلال الجزائر؟ عندما احتلت الجزائر أصبح هاجس الاحتلال يسيطر على الشعب والنخبة وحكام البلاد التونسية جميعهم، فأسس أحمد باي في مارس 1840 المدرسة الحربية بباردو وكانت بمثابة ضربة البداية في “نسخ واستنساخ” النموذج الأوروبي في التنمية والرقي والتقدم، وليس بالضرورة أن يكون الباي مخطئا في تلك الحقبة خصوصا وأن رؤية أكابر النخب الإصلاحية وعلى رأسهم محمود قبادو قد طرح وجهة نطر وفلسفة في الإصلاح لم يقع احترامها واتباع منهجيتها من قبل من تعاقبوا على الإصلاح في تونس إلى يوم الناس هذا.

وجهتي نظر الإصلاح

مع ضعف الخلافة العثمانية واحتلال الجزائر من قبل فرنسا تبنت النخب التونسية في أواسط القرن 19 (1837-1857) وجهتي نظر في إصلاح الأوضاع بالبلاد التونسية،

النظرة الأولى والتي تبناها أحمد باي (حكم تونس بين 10 أكتوبر 1837 و30 ماي 1855) وجملة من وزرائه وحاشيته ومقربيه وعلى رأسهم الوزير مصطفى خزنه دار، وهي ما أطلق عليه المؤرخون “بالإصلاح العملي التنفيذي” أو الإصلاح السريع، يعني بناء مؤسسات حربية وتعليمية ومدنية من أجل استنساخ التجربة الفرنسية (بعد زيارة هذا الباي لفرنسا في نوفمبر 1846) في النهوض بالجيش والإعمار وكسب الربح السريع من أجل مواجهة مخاطر الاحتلال الفرنسي والذود بالبلاد عن تدخل الأتراك (الجيوش العثمانية) بعد أن ضموا طرابلس (ليبيا) إليهم سنة 1835، ويتمثل هذا الاستنساخ في جلب أساتذة ومهندسين وأطباء ومؤلفات ونظريات من فرنسا لزرعها في تونس وتأسيس نظام تعليمي ومناهج تعليمية مماثلة لما هو موجود في فرنسا، ومن استتباعات وجهة النظر هذه هو اقتراض وضخ كميات كبيرة من الأموال من فرنسا ليتسنى لهم ترسيخ هذه المدرسة الإصلاحية وتوفير الإمكانيات اللازمة لها.

النظرة الثانية والتي تتمثل في “الإصلاح المخطط” والتي تزعمها الفيلسوف محمود قبادو (1815-1871) وتبناها تلامذته من السياسيين خير الدين باشا والجنرال حسين والجنرال رستم ومن الزيتونيين سالم بوحاجب ومحمد بيرم الخامس ومحمد السنوسي وآخرون. وتتمثل هذه النظرة في الانطلاق من العلوم الموجودة لدينا (اللغة العربية وعلوم الشريعة) للاجتهاد فيها وتطوريها والإضافة عليها بالترجمة واقتباس سائر العلوم التقنية والطبيعية والرياضية والاقتصادية والسياسية، وما استوجب ذلك من عملية إصلاح شاملة للتعليم الزيتوني وتطوير مناهجه وإمداد برامجه بمواد علمية وتقنية وطبيعية أخرى

ظلت هاتان النظريتان في الإصلاح تتزاحمان وتسبق إحداهما الأخرى بحسب ظروف الباي ومزاجه والتهديدات الداخلية والخارجية التي تتعرض لها البلاد، ولكن في مجمل حكم أحمد باي فقد اتحدت هاتان المدرستان وظلتا متلازمتان في السير نحو النهوض بالبلاد، إذ اجتمعتا في تأسيس المدرسة الحربية سنة 1840 وتطوير وتنظيم التعليم الزيتوني وإنشاء المكتبة الأحمدية واقتناء المطبعة الحديدية وتطوير الجيش النظامي الذي ظل أحمد باي يعمل على تطويره والإنفاق عليه ثم أرسله في النهاية في حملة نصرة لدعم الجيوش العثمانية في حرب القرم (حرب قامت بين الإمبراطورية الروسية والدولة العثمانية في 4 أكتوبر 1853، واستمرت حتى 30 مارس 1856) مما أدى بفقدان كامل الأسطول والجنود التونسيين فاهتم الباي واغتم لهذه المحزنة مما أدى لوفاته في 30 ماي 1855 وعمره 49 عاما.

ثم استمر العمل بالإصلاح المخطط طيلة فترة حكم محمد باي (1855-1859) الذي تأسست في عهده بلدية الحاضرة (1858) ثم محمد الصادق باي (1859-1882) إلى غاية قيام “ثورة العربان” سنة 1864 بعد أن تم استصدار قانون عهد الأمان سنة 1861 وهو زبدة ثمرة هذه المدرسة في الإصلاح المخطط مما أدى بتحطيمها ونسفها على يد ثورة العربان (ثورة علي بن غذاهم).

الإصلاح السريع من جديد

نتيجة للفساد والسرقة اعتزلت مجموعة الإصلاح المخطط (قبادو وخير الدين ورستم وحسين) ميدان الحكم واعتزلوا السياسة للمراجعة والبحث في أسباب فشل تجربتهم بعد ربيع العربان، وخلال هذه الفترة التي اعتزل فيها رجال الإصلاح (1862-1868)، عاث مصطفى خزنه دار وعملاءه (ابنه محمد مصطفى خزنه دار وشريكه محمود بن عياد) في أموال الدولة فسادا مما أدى لاقتناع محمد الصادق باي بعودة مجموعة خير الدين لزمام الإصلاح ووقف نزيف السرقات والفساد، مما أمكن لخير الدين خوض آخر تجاربه في الإصلاح السريع هذه المرة لإنقاذ البلاد من الإفلاس وذلك بمحاولة إعادة الأموال المنهوبة وتنظيم بلدية الحاضرة تونس (1872) وتأسيس المدرسة الصادقية (1875) وتطوير المطبعة الرسمية وغيرها من الإصلاحات المالية والاجتماعية، ولكن سرعان ما التف الحاسدون حول الباي من جديد ليقنعوه بخطورة ما أقدم عليه خير الدين مما اضطر لهذا الأخير أن ترك البلاد وتوجه إلى إسطنبول ليكمل مشواره في الإصلاح.

الأنفاس الأخيرة للإصلاح المخطط

بعد إجهاض الإصلاحات الدستورية (عهد الأمان) اقتصر الإصلاح المخطط بين جدران جامع الزيتونة على يد ثلة من رجال الزيتونة أشهرهم الشّيخ أحمد الورتاني والشيخ سالم بوحاجب ومحمّد السنوسي ومحمّد بيرم الخامس إلى أن جاءت صدمة الاحتلال (احتلال فرنسا لتونس سنة 1881) فزادت من تهميش هذه المؤسسة العلمية لفترات تطول مرة وتقصر أخرى، ولكن ظل رجال الزيتونة يكابدون ويسعون لإصلاح مؤسستهم بكل ما أوتوا من قوة ومن أموال الوقف التي نماها ونظمها خير الدين باشا، ولكن ما فتئ أن قويت شوكة رجال الإصلاح السريع على يد جيل جديد ممن درسوا في فرنسا (بورقيبة وجماعته) فهمشوا هذه المؤسسة العلمية وداسوا على رجالها (عبد العزيز الثعالبي) إلى أن أتموا الصفقة مع فرنسا واستلموا المهمة (مهمة المستعمر) في مواصلة تنفيذ مخطط الإصلاح السريع.

الإصلاح السريع بعد 1956

منذ إبرام ما سمي بوثيقة الاستقلال (20 مارس 1956) وتونس بنخبها وسياسييها ملتفون حول زعيم الإصلاح وبناء “الدولة الحديثة” الحبيب بورقيبة، للاقتباس من النظريات الغربية في النهضة والتنمية وتبن كامل للمنظومة الفرنسية في مناهج التعليم، وبرغم الأصوات المعارضة له في منهجيته في الإصلاح، لا أقول صالح بن يوسف لأن بن يوسف لا يكاد يختلف عن بورقيبة إلا في التفاصيل، ولكن الشق المعارض له في مدرسته الإصلاحية هم بعض الزيتونيين، ولا أقول رجال الزيتونة كلهم، الذين تبنوا فكرة الإصلاح الشامل لنهضة الأمة انطلاقا من لغتها العربية وموروثها الأدبي والفقهي والعلمي، واللذين وقفوا سدا منيعا ضد سياسة “الاستنساخ” التي انتهجها قادة الحركة الوطنية والتي دعمتهم فيها المنظمة الشغيلة (الاتحاد العام التونسي للشغل) والمنظمة الطلابية (الاتحاد العام لطلبة تونس).

منذ ذلك التاريخ (1956) وتونس تتخبط في الاقتراض من فرنسا ثم من الاتحاد الأوروبي لخوض التجارب التنموية والاقتصادية المتضاربة والمتناقضة أحيانا، الاشتراكية التعاضدية في الستينيات (1961-1969) والرأسمالية المقيدة في السبعينيات (1970-1982) ثم تجربة ديمقراطية الحزب الواحد وسياسة الإصلاح الهيكلي في الثمانينيات (1982-1987) والامتثال للمؤسسات الغربية المانحة (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) والتي كانت بمثابة الضربة التي قسمت ظهر النظام في تجربته البورقيبية وكشفت فشل تلك النخب في إدارة الشأن السياسي والاقتصادي للبلاد، حيث بان بالكاشف الفهم السطحي والمغشوش للمجتمع التونسي في علاقته بالإصلاح الجذري والمخطط في إطار الهوية والتعددية الحزبية. ولم تدرك تلك النخب المتغربة إلى اليوم أن المجتمع التونسي ليس المجتمع الفرنسي وأن التجارب الغربية لا يمكن أن تستنسخ على مجتمعاتنا العربية والإسلامية ذات التجربة المختلفة والدين المختلف والثقافة المختلفة والثروات الطبيعية المختلفة.

السمة العامة للإصلاح السريع

إن السمة العامة لبرامج الإصلاح السريع ومحاولة خلق الثروة السريعة التي خاضها المصلحون في القرن 19 ثم زعماء الدولة الوطنية الحديثة في القرن العشرين كلها انتهت بالفشل التام والانتهاء بالثورة الشعبية (ثورة العربان في 1864 وثورة الحرية والكرامة في 2011) التي كانت تعبيرا صريحا من الشريحة الواسعة والمفقرة في المجتمع برفض تلك الإصلاحات السطحية والقشرية التي لم تلامس عمق المجتمع ولم تعد عليه بما يعادل الثروات والخيرات التي نهبت منه وسرقت على مرآ منه ومسمع.

كما أن سمة النهب والسرقة وسيطرة عائلات فاسدة (مصطفى خزنه دار ونسيم شمامة ومحمود بن عياد والعائلة الطرابلسية) اشتركت فيها مرحلة الإصلاح في القرنين 19 والـ20 وانتهت بالثورة الشعبية العارمة.

الخاتمة

كل ذلك يجعلنا نطرح ألف سؤال حول الجدوى من سلوك طريق الإصلاح السريع والمغشوش الذي يتم استيراده من دول ومجتمعات تختلف عقائديا وثقافيا ولغويا عن المجتمع التونسي، وأن الموروث الثقافي (الفقهي) والعلمي (جامع الزيتونة) لتونس ولغتها (العربية) هم المحضن الحقيقي وبداية كل إصلاح، فإن لم تنطلق عمليات الإصلاح من داخل المجتمع ومن خلاياه الضيقة والمنتشرة (الأسرة والمسجد) فلا يمكن الحديث عن تغيير وعن نهضة وبالتالي لا يمكن الحديث عن خلق للثروة، بل مزيدا من التداين وإثقال الأجيال بالقروض والديون مع الوقت الضائع وهدرا للثروات الباطنية والبشرية للبلد.

المهدي بن حميدة
لوزان في 4 جوان 2018

المهدي بن حميدة

المهدي بن حميدة

العمر 55 سنة - متزوج وأب لثلاثة أطفال (بنتان وولد) - مقيم بسويسرا منذ 9 ماي 1992.
كاتب ومتابع للشأن السياسي والعربي والإسلامي - مدير شركة خاصة في الطباعة والتصميم والتوزيع.

أظهر كل المقالات