fbpx

الحركة الاستقلالية في تونس: الجزء الثاني

مستشفى عزيزة عثمانة - تونس

عبد العزيز الثعالبي – جريدة الجامعة العربية – القدس – 26 أكتوبر 1934

اكتساح النورمنديين إفريقية سنة 543 هـ / 1148 م

استولى النورمانديون على شطوط شمال إفريقية من طرابلس الغرب إلى جزائر بني مزغناي (مدينة الجزائر الآن) سنة 543 هـ، وطاب لهم المقام فيها بعد أن ضعف شأن أهلها بتسلط همجية الأعراب على بلادهم فعجزوا عن دفع غارة الأجانب عليها، إلى أن قدم لنجدتهم مؤسس دولة المصامدة أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي[1] بعد انتصاراته الحاسمة على الإسبانيين في الأندلس، فأقبل يتهادى في جيوشه الجرارة وأساطيله الضخمة سنة 555 هـ لطرد النورمانديين من البلاد التي اكتسحوها في شمال إفريقية فحصدهم حصدا ولم يعد منهم إلى أوروبا إلا فلول وبذلك انقطعت أطماع الأوروبيين في عبور البحر المتوسط بضعة قرون تولى فيها على إفريقية ولاة من الموحدين، واستمروا إلى ما بعد قمع ثورة ابن غانية[2] سنة 603 هـ.

قيام الدولة الحفصية

على إثر هذا الفوز قامت الدولة الحفصية[3] سنة 603 هـ، وهي الدولة البربرية العربية الثانية، وكان مؤسسها الأمير عبد الواحد الحفصي ولاه أمرها الناصر بن منصور حفيد أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي، فكان في أوليات عهد الدولة تابعا لها ولما ضعف شأنها استقل الحفصيون بالأمر سنة 634 هـ، وأنشأوا دولة عظيمة في شمال إفريقية في عصر أمير المؤمنين أبي زكريا الحفصي، حين وافته بيعة بني ميرين والأندلس في المغرب وبيعة الحرمين الشريفين في المشرق، وقد كان لهذه الدولة من الأثر في إصلاح البلاد وتمدّنها ونشر لواء الحضارة والعرفان ما جعلها تتسابق مع الأندلس في إنارة العالم بمشعال الثقافة الإسلامية.

ويكفي الإلمام بنبذة من تاريخها للعلم بالأثر الذي كان لها في خدمة البلاد ناهيك بما أقامته من المعاهد للعلم وما أخرجته مدارسها من فطاحل الكتاب والعلماء والشعراء وغيرهم من العبقريين الذين بزّت[4] بهم إفريقية بقية الأقطار، أمثال الوزير العلامة ولي الدين ابن خَلدون صاحب كتاب (ديوان العِبَر) والإمام ابن عَرَفة صاحب كتاب (التعاريف) الذي ضبط به مسائل الفقه الإسلامي واحدث به إصلاحا كبيرا في قواعد التشريع، ومنهم الوزير التيجاني الذي أرخ عهد الحفصيين في رحلته المعروفة باسمه لما خرج يتفقد البلاد وقد كتب في كتابه عن ساحة عنبر وقصر العروسان في مدينة قابس عاصمة امراء بني جامع الهلاليين، وهي من الطرف الفنية البديعة يخيل لقارئها من معاصرينا أنه لا يقرأ تحفة فنية عن مدينة في إفريقية وإنما يقرؤها عن غابة بولونيا وقصر فرساي لكاتب وصافة من الفرنسيين.

أضف إلى ذلك ما حدث في هذا العهد من غراسة الأشجار وإنشاء البساتين وإنباط المياه والإبداع في بناء العمارات وإنشاء القصور، ومنها القصور الملكية المعروفة بقصور باردو، والخلاصة أنه كان عصر ترف وإمتاع ظهرت فيه النعومة التونسية بأوضح صورة مما ظهرت في العهدين: العهد الأغلبي والعهد الصنهاجي، فإن العهد الأغلبي كان عهد استعداد وفتح وانتشار، وكان عهد الصنهاجيين عهد تأسيس وانتقال وتمدين، وكان العهد الحفصي عهد إنتاج وإبداع.

وفي هذا العهد عقد الملوك الحفصيون معاهدات كثيرة مع دول أوروبا لضمان حرية التجارة والإقامة وتبادل المنافع مع الخارج، وفيه بدأ الاتصال السلمي مع ممالك القارة الأوروبية رغم محاولة لويس فيليب[5] غزو البلاد في غارته الصليبية على الشرق، فقد نزل بجيوشه الجرارة سنة 1270 م إثر انهزامه في دمياط فوق أطلال قرطاجنة، ولم تكد تصمد الدولة الحفصية لقتاله حتى عاجلته جيوش الهواء الأصفر[6] التي جاء بها معه من المشرق فوقى الله بذلك البلاد من الاشتباك في حرب ضروس.

الاحتلال الإسباني لتونس سنة 1535 م

استمرت هذه الدولة قائمة إلى أن نشب الخلاف على ولاية الملك بين الأمير حسن الحفصي منازعة فيه، فاستنجد الأمير حسن بالإسبانيين على خصمه العنيف فقدمت الأساطيل الإسبانية وساعدت الأمير حسن علي تسنم العرش بعد أن أعلنت “حمايتها”[7] على البلاد وكان عهدها شر عهد على تونس، وقد دامت “حمايتها” 45 سنة إلى أن قيض الله لإنقاذها من هذا الشر الوبيل الدولة العثمانية في عهد الخليفة الأول من آل عثمان السلطان سليم الأول، فقد ندب لفتحها وزيره الجليل سنان باشا، وسير عليها قبله أسطولا بقيادة أمير البحر طرغود باشا وحدثت مواقع عنيفة بين الجيشين دارت في مرسى تونس البحري (حلق الوادي) وعلى الأبواب البحرية للعاصمة كُتب فيها النصر والفوز للجيش العثماني.

طرد الإسبان من تونس على يد العثمانيين سنة 1574م

بهذه الواسطة تسنى للأتراك العثمانيين أن ينشروا سيادتهم في إفريقية على المغربين الأدنى والأوسط (طرابلس وتونس والجزائر) وأصبحت هذه البلاد من الأجزاء المتممة لبلاد السلطنة العثمانية، فتداول عليها في أول هذا العهد ولاة من الأتراك ثم آل الأمر بعد أن أدركت الدولة صعوبة المواصلة بين هذه البلاد المفتوحة ومركز السلطنة إلى الأمراء المراديين ينتخب الشعب منهم أميرا يرشحه للحكم تقره الدولة العثمانية، وكان الجيش وقاضي القضاة يرسلون من الآستانة.

وفي هذا العهد فُصلت إيالة الجزائر عن تونس وكذلك ولاية طرابلس الغرب، وهو أظلم دور مر على شمال إفريقية منذ عهد الغارات الاستعمارية، فقد تولى الحكم والمناصب والحفاظ على الأمن أفراد الانكشارية[8]، وأغلبهم من سفلة القوم وجهلتهم الذين لا ثقافة لهم ولا تصلهم بالبلاد رابطة سوى غطرسة الحكم والسيادة الغبية، فعاثوا فيها بغيا وفسادا وتفشى في عهدهم الجهل وانحطاط الأخلاق وعما الفوضى، ولم يؤثر عنه من الحسنات سوى تشييد المساجد المزخرفة وبناء الجسور فوق الأنهر وإسالة المياه إلى الأماكن العديمة المياه.

وفي أيامهم ظهرت الأميرة المبرورة صاحبة الخيرات والأيادي البيضاء على الأمة التونسية الأميرة “عزيزة عثمانة”، فقد وقَفت جميع املاكها على مشاريع البر والتعاون التي لم تزل قائمة إلى عهدنا الحاضر، فقد أحدثت المستشفيات المجانية ومستشفاها الذي كان يعرف باسمها وأكبر مستشفى ظهر في شمال إفريقية، وقد وقَفت جانبا من أملاكها على تجهيز الأبكار من البنات وجانبا آخر على كساء وختان الأطفال يوم عاشوراء، ومن الدلائل على رقة روحها وسمو عواطفها عنايتها بالزهور واهتمامها بتربيتها أنها أرصدت وقفا على شراء كميات منها في كل يوم ووضعها على بعض المقابر وهي من اجل الأميرات التي تحفظ لها البلاد حسن الذكرى وتقل لها بالجميل بعد “أم ملال” وقد كان ذكرها يشع من خلال هذا العصر المظلم.

لم يطل اجتمال التونسيين لمظالم هذا العهد بالنظر لما كان لهم من إباء فقاموا بثورة عظيمة ضد الأمير بن علي الشريف آخر المراديين فأنزلوه العرش واجتمعت كلمتهم على دعوة الأمير الاي حسين بن علي تركي قائد حامية الكاف وبايعوه بالإمارة عليهم، وكان من أنزله وأعقل قواد الأتراك الذين وجدوا في تونس وانتهت الأمة بذلك إلى الدولة العثمانية وهذه أقرته في مسند الإمارة وجعلتها وراثية في عقبه يتولاها الأرشد فالأرشد.

وهذا هو مبدأ ظهور الدولة الحسينية الباقية في تونس إلى هذا اليوم. انتهى

المصدر: مقالة بعنوان ” الحركة الاستقلالية في تونس” لزعيم تونس الكبير الشيخ عبد العزيز الثعالبي، صدرت بجريدة “الوادي” المصرية ونقلتها في ثلاثة أجزاء جريدة “الجامعة العربية” الصادرة بالقدس، وذلك في 23 أكتوبر  و25 أكتوبر و 26 أكتوبر 1934

الحركة الاستقلالية في تونس: الجزء الأول


[1] عبد المؤمن بن علي الكومي (487هـ – 558هـ) كان الخليفة المؤسس لدولة الموحدين وحكمها من العاصمة مراكش من سنة 541 هـ وحتى 558 هـ.

[2] كُتبت في الأصل “بن مانية” وهو خطأ مطبعي، واسمه يحيى بن غانية والمشتهر “بالميورقي” لاستيلائه على الجزائر الشرقية من الأندلس (ميورقة ومنورقة ويابسة)، وبنو غانية سلالة صنهاجية من بقايا أمراء المرابطين، قادوا ثورة في أفريقية من 6 شعبان 580هـ إلى 631هـ (حوالي 50 سنة) والمعروفة بثورة الملثمين، هدفت إلى إحياء دولة المرابطين والقضاء على امبراطورية الموحدين، فاغتصبوا قابس وصفاقس والمهدية ووثبوا على الحاضرة تونس وحاصروها أياما، حتى عمد إليهم الأمير أبو زكريا الحفصي بجهة قابس سنة 631 هـ، وبعد معارك عنيفة تمكن أبو زكريا من تشريد جموع ابن غانية وتشتيت شمله ففر نحو الصحراء الكبرى ولقي حتفه هناك.

[3] الحَفْصِيُّون أو بنو حَفْص سلالة أمازيغية مصمودية حكمت إفريقية ما بين 1229-1574م استمدت التسمية من أبي حفص عمر (1174-1195م) أحد أجداد الأسرة ومن رجالات ابن تومرت الأوفياء.

[4] بزّ الشّخص أقرانه؛ غلَبهم، فَاقَهم.

[5] لويس التاسع، قاد هذا الملك الفرنسي جملة من الحملات العسكرية الفاشلة انتهت بوفاته في ظروف صعبة بمدينة تونس في 25 أوت 1270.

[6]  أصيب لويس التاسع وجيشه بوباء التيفويد، وتحدث الإصابة به عادة عن طريق تناول طعام أو ماء ملوث، فقضى عليهم جميعا.

[7]  استعمل الثعالبي هذا اللفظ (الحماية) الذي وضعته بين معقفين، لأن التدخل الإسباني في تونس كان احتلالا بشعا، أبشع من الاحتلال الفرنسي سنة 1881، فقد داست خيول الإسبان جامع الزيتونة وبعثرت خزائن كتبه تحت أقدامها وعاث الجنود في مدينة تونس تقتيلا لأهلها على مدى ثلاثة أيام متتالية.

[8] كان جيش الانكشارية جيش الدولة الرسمي للسلطان العثماني حتى إلغائه في عام 1826م، وهم جيوش مرتزقة يتلقون راتبا وأموالا على خدمتهم وحراستهم للسلطان العثماني والقيام على امن الإمبراطورية.


نقلت المقالة كما هي مع زيادة العناوين الفرعية (ليست موجودة بالمقال الأصلي) وأردفت التعريفات في الحواشي، التي رأيت من المفيد إضافتها لمزيد إطلاع القارئ بما ينسجم مع المقال.
المهدي بن حميدة
لوزان، في 6 مارس 2021

المهدي بن حميدة

المهدي بن حميدة

العمر 55 سنة - متزوج وأب لثلاثة أطفال (بنتان وولد) - مقيم بسويسرا منذ 9 ماي 1992.
كاتب ومتابع للشأن السياسي والعربي والإسلامي - مدير شركة خاصة في الطباعة والتصميم والتوزيع.

أظهر كل المقالات