fbpx

عبد العزيز الثعالبي: تاريخ اليهود في تونس وشمال إفريقية

تاريخ اليهود في تونس وشمال إفريقية للشيخ عبد العزيز الثعالبي نشر بجريدة الجامعة العربية الصادرة بالقدس في 8 أكتوبر 1931

عبد العزيز الثعالبي – جريدة الجامعة العربية – القدس – 8 أكتوبر 1931

نزوح اليهود إلى شمال إفريقية بعد تخريب الرومان لمجتمعهم – كيف عاشوا في ظل الحكومات الإسلامية – تواطؤ اليهود مع الإسبان والفرنسيين على الكيد للحركة الاستقلالية – اضطهاد أوروبا لليهود – احتلال فرنسا لتونس والجزائر بسبب اليهود – انحدار الفكرة الصهيونية في تونس وتمزيق العلم الصهيوني.

-جريدة الجامعة العربية– من الضرورة بمكان أن نحيط قراء أهل هذه البلاد وقراء “الجامعة العربية” علما بحال الأقطار العربية الإسلامية الأخرى لما تربطها به من روابط وتجمعها من جامعة، وقد اغتنمنا فرصة وجود العلامة الكبير زعيم تونس الأستاذ عبد العزيز الثعالبي بين ظهرانينا، فقصدنا إلى سيادته ورجوناه أن يقص على قرّاء الجامعة قصص اليهود في شمال إفريقية ومبلغ انتشار الفكرة الصهيونية في تلك الأصقاع العربية الإسلامية، فتفضل سيادته علينا بالحديث الطريف الممتع التالي الذي نزود به القراء.

إن حال اليهود في شمال إفريقية لا تختلف عن حالهم في بقية الأقطار المسكونة الأخرى، فهم جاليات طُفيْلية تعيش كالقطعان في معزل عن الأمم التي توجد بين ظهرانيها لا تتصل بها إلا بمقدار ما تتمكن من امتصاص دمائها أو اخلاف الحياة منها، وهي غير منتجة ولكنها في الوقت نفسه تستفيد من جهود غيرها باستعمالها وسائل هي في الغالب غير شريفة وأخطرها هدم الثروات القومية ونقلها إليهم عن طريق المعاملة بالفوائض المركبة، فهم وطنيون وغرباء حسب المصلحة، فإذا وجدوا في كنف أمة قوية ذات سيادة فإنهم يتظاهرون بالوطنية وإذا اقتضت الحال كانوا أشد وطنية من الوطنيين وهم في الواقع مجردون عنها وإن كانوا في أمة ضعيفة فهم أنكى عليها وأشد خصومة لها ومظاهرون للغالب عليها.

نزوح اليهود إلى شمال إفريقية

لم ينزح اليهود إلى شمال إفريقية دفعة واحدة بل تواردوا عليها فوجا بعد فوج في عصور متباعدة، وأول جالية منهم نزلتها جاءت على إثر تفويض الرومان لمجتمع اليهود الصغير في بلاد الجليل، وربما جاءت أسر منهم قبل ذلك مع مراكب الفينيقيين وبقاياهم تقيم الآن في جزيرة جربة وجنوب البلاد التونسية من قابس إلى مدنين وقد اكتسبوا طبيعة وسُنحة البربر الذين كانوا آهلين لهذه الجهات ولهم كنيس في جزيرة جربة لم يزل قائما إلى الآن، بني قبل المسيح بنحو نصف قرن، وقد هبطوها مرارا لما اضطهدهم المسيحيون في إسبانيا حينما كانت تجبر غير المسيحيين على التنصر يهودا كانوا أم مسلمين، فكانوا يأتونها فوجا بعد فوج.

كيف عاملت أوروبا اليهود؟

ولم يكن حظ اليهود في وسط أوروبا وجنوبها أحسن منه في إسبانيا، فقد كانوا يفرضون عليهم في عهد سيادة الباباوية على تلك البلاد أن يقيموا في (Ghetto) وهي أسوء الأماكن التي تكون في المدن يجعلونها أحياء لليهود ويحجرون عليهم الخروج منها ويمنعونهم من مزاولة الأعمال الشريفة وهي الجندية والوظائف والزراعة ويرغمونهم بقانون شرّع لذلك أن يشتغلوا بالأعمال الدنيئة كنزح المراحيض واحتراف بعض الصناعات اليدوية والصيرفة، فكانوا يفرون منها إلى شمال إفريقية حيث يجدون الرحب والسعة وحسن المعاملة والعدل والإحسان، فعاشوا قرونا في كنف المسلمين.

ولكن اليهود بالرغم من إنزالهم هذه المنزلة من الكرامة وحسن الضيافة، قلبوا للمسلمين ظهر المجن لما هاجمت إسبانيا القسمين الشرقي والأوسط من شمال إفريقية من طرابلس إلى وهران في أواخر القرن التاسع وأول القرن العاشر للهجرة، فقد كانوا أكبر عون للإسبان على إضعاف شوكة المسلمين وكشف مواطن الضعف فيهم، وهذا دليل على الجحود والكفران بالجميل.

اليهود تحت الحكم الإسلامي

ولما أعاد المسلمون الكرّة وتغلبوا على الإسبانيين بفضل سيوف الأتراك تغاضوا عن مساوئ اليهود وما انزلوه فيهم من نكبات وتسامحوا معهم وخولوهم حق الإقامة وحرية العمل وإقامة الشعائر الدينية، وإن أنس فلن أنسى أن الحكومات الإسلامية التي توالت على هذه البلاد من عهد الفتح كانت تخول اليهود نظاما طائفيا مكنهم من فتح معاهد التعليم وإقامة الحكام المدنيين منهم وتخويلهم حق التوظف في مناصب الحكومة من مالية وإدارية وكتابية وسياسية وخصوصا في المائتي سنة الأخيرة، فقد تسلموا أرقى مناصب الدولة، فكانت خزانة المال في أيديهم يتولى امانتها وزير يهودي، واغلب وظائف الوزارة الخارجية كانت في أيديهم، ويكفي أن يتولى يهودي وزارة البلاط وإدارة التشريفات وقد توصل اليهود في غفلة المسلمين عنهم إلى الاستحواذ على كافة المرافق الصناعية والمالية في البلاد، وما كان يخلو بيت وزير أو أمير أو عظيم من يهودي يتولى إدارة أعماله، وما كانوا في الحقيقة يعملون إلا على ابتزاز الثورة من أيدي مؤتمنيهم إلى جيوبهم.

ولما تمكنوا من القروة والنفوذ أخذوا يكيدون للبلاد ويتفقون مع الدول الطامعة عليهم، فكانوا يأخذون اوراق الحمايات من القناصل لإثبات أجنبيتهم عنها، وقد اشتد هذا البلاء منهم بعد استيلاء فرنسا على الجزائر، فقد كانوا يحرضون سفهاءهم وأشرارهم على التحكك بالمسلمين بما يثير عواطفهم حتى إذا حصلت أية واقعة عادية تنقلب في الحين إلى مشكلة سياسية تتهم فيها البلاد بالظلم والتعصب والاضطهاد لهذا “الشعب المسكين”.

سبب احتلال فرنسا لتونس

وإذا بحثنا عن أسباب احتلال فرنسا لتونس والوسائل التي تضرعت بها لإضعافها وتوهين سلطة الحكومة لوجدناها منحصرة في دسائس اليهود وأعمالهم، فقد اتفق أن حدثت واقعة قبل الاحتلال ببضع عشرة سنة مؤداها أن يهوديا من سقط المتاع من الذين تحركهم الأيدي الآثمة تخاصم مع مسلم خصومة بسيطة، فقد أخذ يفحش في سب المسلمين وشتم الدين الإسلامي والنبي الكريم بما أثار النعرة في قلوب المسلمين الصادقين، فضرب أحدهم اليهودي ضربة كانت القاضية عليه، فهاج اليهود وأقفلوا دكاكينهم وتظاهروا ضد البلاد التي اوتهم واكرمتهم، فكان من عواقب ذلك ان أرسلت الدول الأوروبية أساطيلها لحماية حقوق اليهود والمطالبة بإنصافهم وإنقاذهم من الجَور الإسلامي، ومنذ ذلك اليوم فُتحت ثغرة في استقلال البلاد التونسية كانت نتيجتها تسلط فرنسا على البلاد واحتلالها عسكريا، فاليهود الذين كانوا سببا في احتلال فرنسا للجزائر، كانوا كذلك سببا في احتلالها لتونس التي أنقذتهم من طغيان إسبانيا وأوروبا.

يهود إفريقية والمدنية الغربية

إن اليهود في شمال إفريقية لم يكونوا منقطعين عن إخوانهم في اوروبا بل كانوا متصلين بهم اتصالا تاما، وبواسطة هذا الاتصال تمكنوا من الانتباه قبل المسلمين بقرن، فكانوا وسطاء في التجارة والنقل بين شمال إفريقية وأوروبا وتمكنوا من فتح المدارس الطائفية للتعليم والتهذيب الأوروبي واستخدموا لذلك أساتذة من اليهود، وبهذه الواسطة كان تعليمهم طائفيا مدنيا لا أثر فيه لتحويل النفسية اليهودية عن الاتصال بتاريخها وعقائدها بعكس ما حصل للمسلمين في عهد المدرسة الأوروبية الجديدة التي كانت مدرسة دس ومسخ ونسخ للذات القومية، وبهذه الواسطة استفادوا من حِيل الحضارة الغربية وأخذوا منها بأوفر نصيب وذلك فوق ما كان لهم من التفوق الاقتصادي الذي تمكنوا منه في عهد الاستقلال.

محاولة اليهود أن يتفرنسوا

ولكنهم بدلا من أن يتخذوا هذا التفوق وسيلة لخدمة البلاد التي أكرمتهم وأطعمتهم من جوع وآمنتهم من خوف وأغنتهم بعد فقر، تنكروا لها وصاروا يطلبون الاندماج بالفرنسيين وجعلوا الفرنسية هدفهم الأسمى وهم إنما يقصدون بذلك أن تكون لهم السيادة السياسية على البلاد بعد أن أحرزوا السيادتين العلمية والاقتصادية خصوصا أن عددهم في المملكة التونسية لا يقل عن 150 ألفا وعددهم في العاصمة تونس وحدها يربو على الستين ألفا، ولولا انتباه البلاد وتيقظ زعمائها لهذه الدسيسة السياسية الخبيثة في عام 1910 لتم لهم ما أرادوا.

تواطؤ الفرنسيين واليهود

ولابد من الإشارة إلى أن الفرنسيين سواء الذين في تونس أو الذين في باريس يهمهم أن يضيفوا إلى عائلاتهم هذا العدد من اليهود للقضاء نهائيا على الذاتية التونسية، وهم في باطنهم يمقتونهم أشد المقت ولكن المآرب السياسية جعلتهم يخفون هذا المقت في أنفسهم، واليهود يعرفون ذلك ولا يُنكرونه ولكن اليهود يعلمون أن فرنسا ذات منعة وقوة، وإنهم لا يستفيدون من مناوأتها كما يستفيدون من ممالأتها وإضعاف مسلمي شمال إفريقية، لذلك كانوا يغضون الطرف عن المكارة التي تبدو لهم من الفرنسيين جريا على الغريزة التي عرفوا بها وهي ممالأة القوي ومساعدته على الضعيف.

كيف استفاد اليهود

انا لا أعتقد أن اليهود استفادوا مما استفادوا منه في شمال إفريقية بتفوقهم وذكائهم، ولكن بإهمال المسلمين لشؤونهم وتمسكهم بالعنعنات والعظمة الفارغة، واعتبارهم اليهود من رعاياهم المساكين الذين يجب العطف عليهم، حتى إذا جاءت فرنسا وجاءت البلاد بنظامها وتراتيبها ومعاولها لتقويض الكيان التونسي، انتهز اليهود هذه الفرصة لمعرفتهم مقاصد فرنسا وعلمهم بغفلة التونسيين عما يدار بهم وشغوفهم بالماضي، فوضعوا أيديهم على كل شيء، وبذلك استفادوا أضعاف ما استفاد منه الفرنسيون، بحيث لو جردنا الثروة الفرنسية من الشركات التي أسسوها بقوة الحكومة من مرافق البلاد وخيراتها وقارنا ما استفادوه من جهودهم الفردية بما استفاد اليهود، لكان البون بينهما شاسعا، فإن اليهودي قد استفاد من كل شيء، وهو في البلاد ممتاز على الوطني ليس في المرافق والأعمال فحسب، بل وفي نظر الحكومة وامام المحاكم، والحكومة تعده في المرتبة الثانية بعد الأوروبي، أما ابن البلاد العربي المسلم فهو مسلوب من كل شيء، من حريته وحقوقه وامتيازه حتى يشعر بأنه غريب عن البلاد لا ملجأ له من الظلم غير الرحيل عنها.

اندحار الصهيونية في تونس

وقد اغتر اليهود بهذه المنزلة التي أدركوها في عهد الاغتصاب الفرنسي وظنوا أنهم يستطيعون التظاهر بميولهم القومي خصوصا بعد أن انتعشت الفكرة الصهيونية في بعض أنحاء أوروبا، وقرروا جعل فلسطين المنكوبة وطنا قوميا لهم، فإنه لما وضعت الحرب الأوروبية الكبرى أوزارها اغتر يهود تونس وخرجوا من مقابعهم في مظاهرات كبرى رافعين علم الصهيونية وأخذوا يطوفون شوارع المدينة وساحاتهم هاتفين للفكرة الاستقلالية الصهيونية، فما كان من الفرنسيين وفي مقدمتهم المحامون والكتاب ورجال الطبقات العالية إلا أن هجموا عليهم وأمعنوا فيهم ضربا ولكما حتى تحطمت أجسام كثيرين منهم وأصيبوا بجراح دامية مختلفة، ثم مزقوا العلم الصهيوني إربا وداسوه وعلى إثر ذلك اختفى اليهود عن العيون وتلاشت مع اختفائهم الفكرة الصهيونية وارتد اليهود إلى مقابعهم، إلا نفر من متهوستهم ظلوا يعملون لها سرا، ولكن أعمالهم لا تتجاوز المحيط الأدبي وأحيانا يجمعون إعلانات تافهة على أيدي دعاة ذوي جرأة من الصهيونيين يستثيرون حماستهم وعطفهم.

محاولتهم بث الدعاية للصهيونية

ولكن بعد أن استيقظ الروح الإسلامي في شمال إفريقية يستحيل على الصهيونية أن تجد لها موطنا هناك، فقد جربوا القيام بدعاية خافتة بواسطة جريدة يومية أنشأوها لذلك في تونس اسمها (الفجر) يريدون بها نشر الروح السامية[1] وأن اليهود إخوة العرب فلم تفت المسلمين هذه الدسيسة فقاوموها وقاطعوا الجريدة بحيث لم يشتر منها أحد من التونسيين عددا واحدا مع انها تعدّ من أغرز الجرائد مادة، وهكذا قُبرت في مهدها ولا أظن أن اليهود في شمال إفريقية يعاودون هذه التجربة الخاسرة.

يهود تونس يخافون الحركة الوطنية

أما الحركة الوطنية اليوم في شمال إفريقية فهي تتجافى الاتفاق مع اليهود فقد حاولت في سنتي 1918 و1919 أن تستعين بالمفكرين منهم وضمهم إليها فما توفقت واظن أن اليهود سيدفعون ثمن هذا النكوب غاليا وسيكون يوما ما حسابهم عسيرا، وهو آت لا ريب فيه.

أنا لا اكره الاتفاق مع اليهود ولا أدعو إلى منافرتهم أينما كانوا إذ كانوا يريدون أن يعيشوا معنا كمواطنين لهم ما لنا وعليهم ما علينا ويكونوا شركاء في الواجبات والحقوق، اما إذا ظلوا يسيرون على خطتهم الخبيثة لا يفكرون إلا في الاستفادة من مصائبنا، فإننا سنجردهم عنا ويوم نفعل ذلك يندمون ولن تنفعهم أوروبا وما ذلك ببعيد.

عبد العزيز الثعالبي
القدس في 8 أكتوبر 1931

[1]  كلمة غير واضحة في المصدر


نقلت المقال كما هو مع الاجتهاد في الألفاظ الغير واضحة في الصحيفة: للاطلاع على العدد من الصحيفة (PDF) .
المهدي بن حميدة
لوزان، في 7 مارس 2021

المهدي بن حميدة

المهدي بن حميدة

العمر 55 سنة - متزوج وأب لثلاثة أطفال (بنتان وولد) - مقيم بسويسرا منذ 9 ماي 1992.
كاتب ومتابع للشأن السياسي والعربي والإسلامي - مدير شركة خاصة في الطباعة والتصميم والتوزيع.

أظهر كل المقالات