fbpx

تاريخ الفتوحات الإسلامية لأفريقية (27 – 82 هـ)

  • المهدي بن حميدة الكاتب: المهدي بن حميدة
  • الجمعة 13 جمادى الآخرة 1441 الموافق لـ 7 فبراير 2020
  • 0
  • 3324 مشاهدة
عقبة بن نافع الفهري

فتح عمرو بن العاص مصر (الإسكندرية) سنة 21 هـ ثم برقة (بنغازي) سنة 22 هـ، ثم مدينة طرابلس سنة 23 هـ، وعين عمرو بن العاص عقبة بن نافع الفهري (وهو ابن خالة عمرو) واليا على برقة بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب، ثم عزل الخليفة عثمان بن عفان عمرو بن العاص عن ولاية مصر وولاها إلى أخيه من الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعاد عمرو بن العاص إلى المدينة المنورة.

الفتح الأول لأفريقية سنة 27 هـ

عند اجتماع عبد الله بن سعد بن أبى سرح بعقبة بن نافع الذي كان مقيما في برقة وهو ذو دراية بالأحوال البربرية ويعرف طرق الصحراء لأنه عاش بينهم فترة طويلة وأثناء الاجتماع أخبر عقبة عبد الله بأن المعركة القادمة هي من أهم المعارك في تاريخ المسلمين حيث أن هناك ملك مستبد يدعى (Grégoire le Patrice) ويطلق عليه العرب اسم “جرجير”[1] وهذا الملك يهابه كل الناس من طرابلس في ليبيا حتى مدينة طنجة في المغرب لأنه استقل بحكمه عن امبراطور الروم بالقسطنطينية (قسطنطين الثاني) سنة 646 م (سنة 25 هـ)، واتخذ من مدينة سبيطلة عاصمة له، بدعم من البابا بعد أن أظهر قسطنطين الثاني تعاطفا مع المسلمين الفاتحين.

سار عبد الله بن سعد بن أبي سرح إلى إفريقية سنة 27 هـ وبعد معركة وحصار طال قرابة شهر ولم تُفتح مدينة سبيطلة، أرسل عثمان بن عفان جيشا عظيما يضم كبار الصحابة والفقهاء وعُرف هذا الجيش بجيش العبادلة السبعة فيهم عبد اللَّه بْن الزبير بن العوام وعَبْد اللَّهِ بْن عمر بن الخطاب، وعبد اللَّه بْن عمرو بْن العاص وعبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود، وعبد الرحمان بن أبي بكر الصديق وعبد الله بن نافع بن عبد قيس وعبد الله بن نافع بن الحصين ومعبد بن العباس بن عبد المطلب وعبد الرحمان بن زيد بن الخطاب ومروان وأخوه الحارث بن الحكم بن أبي العاص.

وبعد معركة شهيرة سميت معركة سبيطلة قَتل فيها عبد اللَّه بْن الزبير الملكَ جرجير[2] سنة 27 هـ وخضعت لهم معها قابس وقفصة، أبرم عبد الله بن سعد بن أبي سرح اتفاقا مع قادة البربر والروم يدفع من خلاله هؤلاء مبلغا (الجزية) مقابل الصلح، ثم عادوا إلى مصر بعد أن أقاموا 14 شهرا بإفريقية.

  • [1] حاكم إفريقية البيزنطي، والمنتمي لسلالة الهراقلة التي حكمت الإمبراطورية البيزنطية في تلك الفترة. كان جرجير من المؤيدين بشدة للمسيحية الخلقدونية وتلقى دعما مباشرا من بابا الكنسية لقيادة تمرد في سنة 646 م ضد الإمبراطور قسطنطين الثاني الذي أبدى دعما للمونوثيليتية أو المشيئة الواحدة‏، وهي عقيدة مسيحية تعالج العلاقة بين الألوهية والبشرية في يسوع المسيح. حاول قسطنطين والذي عرف أيضاً بلقب “قسطنطين الملتحي”، أن يقف على الحياد في النزاع الكنسي بين الأرثوذكسية والمونوثيليتية عبر رفضه لاضطهادهم جميعًا ومنع النقاش حول طبيعة المسيح بمرسوم في عام 648 (فرمان قسطنطين)، وأرضت هذه التسوية المباشرة القليل من المشاركين المتحمسين في هذا النزاع.
  • [2]  يذكر المؤرخون أن جرجير ولتحفيز جنوده، وعد بان يزوج ابنته إلى من يقتل قائد العرب، فسمع بذلك عبد الله بن أبي سرح، فنادى في جيشه انه من يقتل جرجير يزوجه ابنة هذا الأخير. ولما كان مقتل جرجير على يد عبد الله بن الزبير كانت ابنة جرجير من نصيبه ولكنها قتلت نفسها، ذكر المؤرخون الغربيون انها ألقت بنفسها من الجمل في طريق عودة الزبير من سبيطلة إلى المدينة المنورة وقد دامت رحلته 25 يوما.

احتجاج الجند على إمارة عبد الله بن سعد

رُوي أن عثمان بن عفان (الخليفة) وعد عبد الله بن سعد بن أبي سرح بخُمُس الخُمُس من الفيء عند إرساله إلى فتح أفريقية، ولقد فعل ذلك ثم أرسل البقية (أربعة أخماس الخمس) إلى الخليفة، فلم يرض الجند (الذين فيهم العبادلة السبعة من كبار الصحابة كما سلف ذكره) وأرسلوا وفدا إلى الخليفة يحتجون من خلاله على هذه القسمة، فراجعهم عثمان وأخبرهم بأنه هو من خص عبد الله بن سعد بهذا الفيض، فتشبثوا باحتجاجهم، وزادوا عليه بأنهم لا يرضون بأن يتأمّر عليهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وهو ليس بعليّة القوم، فأمر الخليفة عثمان بأن يعيد عبد الله بن سعد بن أبي سرح ما أخذه من الفيء، فأذعن وامتثل عبد الله مكرها غير راض، بعد أن عيّن أميرا على الجند خلفا له وهو عبد الله بن نافع بن عبد قيس الفهري، الذي سار بالجند مع عبد الله بن الحصين الفهري وفتحوا بلادا أخرى من جهة المغرب، وخرج عبد الله بن سعد بن أبي سرح إلى مصر سنة 33 هـ.

قائد الفتح الأول هو عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فما هي قصة هذا الصحابي؟

أسلم عبد الله بن سعد بن أبي سرح أول مرة قبل صلح الحديبية وهاجر إلى المدينة وكان حسِن الإسلام وموضع ثقة النبي، وأناله النبي مهمة كتابة الوحي مع عدد من الصحابة الكتاب، ثم أخطأ في إحدى المرات في كتابة آية فصحح له النبي الآية فأفتتن وقال: ما يدري محمد ما يقول ودخل الشك إلى قلبه، فكفر وترك المدينة المنورة هارباً سراً إلى مكة ليلاً، وعند وصوله إلى مكة أعلن عودته إلى الوثنية وقال لهم أنه استطاع تحريف القرآن.

وقد ضعف وأنكر كل علماء الإسلام هذه الرواية وأن الرواية الأصح لردته هي أنه قد أزله الشيطان: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِى سَرْحٍ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَزَلَّهُ الشَّيْطَانُ فَلَحِقَ بِالْكُفَّارِ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقْتَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَاسْتَجَارَ لَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَأَجَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. رواه النسائي وأبو داود وحسَّنه الألباني في صحيح النسائي فارتد عن الإسلام وعاد للوثنية وهرب إلى مكة فنزلت فيه وفي مسيلمة الكذاب والأسود العنسي هذه الآية: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ ۗ…(93)« سورة الأنعام.

عبد الله بن سعد بن أبي سرح على لائحة الإعدام

في السنة الثامنة للهجرة، كان فتح مكة، وكان هُناك أحد عشر شخصاً (ثمانية رجال وثلاث سيدات) أصدر النبي (ص) فيهم حكما بالإعدام وأمر بقتلهِم ولو وجودوا مُتعلقين بأستار الكعبة (يعني مقولة من دخل دار أبي سفيان فهو آمن هو تزوير للحقيقة وأن العفو لم يشمل الجميع وأن قائمة من المفسدين في الأرض أمر النبي (ص) بقطع رؤوسهم)، وكان عبد الله بن سعد بن أبي سرح من ضمن المحكوم عليهم بالإعدام، وكان أخ عثمان بن عفان من الرضاعة، فأختبأ في منزله – أي منزل عُثمان – ولما وجده عُثمان قال له عبد الله، يا أخي إني والله أخترتُك فاحتسبني ها هنا واذهب إلى مُحمد وكلمه في أمري.

فأقبل عُثمان على النبي (ص) فقال يا رسول الله إن أمه كانت تحملني وتمشيه وترضعني وتقطعه وكانت تلطفني وتتركه (ظاهر أن أمه كانت تعامله بتلك القسوة لفساد في أخلاقه وتشوهات في نفسه مذ كان صغيرا) فهبه لي، وأكب عُثمان على رسول الله يُقبل رأسه وهو يقول يا رسول الله، تُبايعه، فداك أبي وأمي يا رسول الله فصمت النبي محمد طويلاً (سيُفهم صمته الطويل فيما بعد لماذا) ثم قال: “نعم” فبايعه النبي محمد على الإسلام.

وبعد رحيلهما التفت النبي (ص) إلى أصحابه وقال ما منعكم أن يقوم أحدكم إلى هذا فيقتُله؟ (يُفهم من هنا أن النبي (ص) انتظر أحد الصحابة الجالسين معه بأن يقوم فيقتله فيريح منه ما كان له رسول الله كارها من العفو عنه) فقال عباد بن بشر ألا أومأت إلي يا رسول الله؟ فـ والذي بعثك بالحق إني لأتبع طرفك من كل ناحية رجاء أن تشير إلى فـ أضرب عُنقه فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:” إن النبي لا ينبغي أن تكون له خائنة الأعين”. فنجا عبد الله بن أبي سرح من الإعدام بالحظ الذي لعب معه وشفاعة عثمان فيه.

وفاة عبد الله بن سعد بن أبي سرح سنة 37 هـ

غادر عبد الله بن سعد بن أبي سرح أفريقية سنة 33 هـ وتوجه إلى المدينة المنورة في وفادة الخليفة عثمان بن عفان ثم رجع إلى مصر، ولما اختلف الناس عَلَى عثمان رضي اللَّه عنه، سار عَبْد اللَّهِ من مصر يريد عثمان، واستخلف عَلَى مصر السائب بْن هشام بْن عمرو العامري، فظهر عليه مُحَمَّد بْن أَبِي حذيفة بْن عتبة بْن ربيعة بْن أمية، فأزال عنها السائب، وتأمر عَلَى مصر من جهة معاوية بن ابي سفيان، وعندما نشبت الفتنة بمقتل عثمان بن عفان سنة 35 هـ توجه عبد الله بن سعد بن أبي سرح إلى عسقلان بفلسطين سنة 36 هـ وأقام بها واعتزل ولم يبايع لعلىّ ولا لمعاوية.

وأجمع علماء التاريخ والسيرة على حسن إسلام عَبْد اللَّهِ بْن سعد الذي دعا فقال: اللهم اجعل خاتمة عملي الصلاة، فصلى يوما الصبح وقرأ في الركعة الأولى بأم القرآن والعاديات، وفي الثانية بأم القرآن وسورة، وسلم عن يمينه، ثم ذهب يسلم عن يساره فتوفي بعسقلان سنة 37 هـ.

ارتداد الأفارقة سنة 30 هـ

في السنة الموالية للفتح الأول أي سنة 28 هـ، وبعد ان علم البرابرة ما حدث مع قائد المسلمين من الاحتجاج عليه، رفض قادة البربر دفع ما عليهم من الجزية، وقالوا لعبد الله بن نافع بن عبد قيس: ليس لنا مال ندفعه إليك واما ما كان عندنا من مال في الأول إنما كنا قد افتدينا به أنفسنا، وأمام إصرارهم على عدم دفع الجزية أمر عبد الله بن نافع بن عبد قيس بسجنهم، فاجتمع الناس واحتجوا على سجن قادتهم وتمردوا سنة 30 هـ على قائد جيش المسلمين الذين كانوا في قلة من عددهم، ففضل عبد الله بن نافع بن عبد قيس التراجع وترك أفريقية في التمرد بين أيدي الثوار، ومكث قادة المسلمين ببرقة يترقبون أمرا من الخليفة.

في تلك الفترة، انشغل المسلمون بعصيان وتمرد الخوارج التي أدت إلى مقتل عثمان بن عفان سنة 35 هـ، والتي تسمى بالفتنة الكبرى، ثم بعد مقتل علي بن أبي طالب سنة 40 هـ انتقل النزاع على الخلافة إلى معاوية بن أبي سفيان مع الحسن بن علي الذي تنازل إلى معاوية بعد ستة أشهر، واجتمع الناس على إمارة معاوية بن أبي سفيان سنة 41 هـ وسمي ذلك العام بعام الجماعة.

الحملة الثانية على أفريقية سنة 34 ثم سنة 40 هـ

أعاد الغزو سنة 34 هـ القائد معاوية بن حديج السكوني، ثم في سنة 40 هـ، وكان من بين من استشهد من الصحابة في هذه المعارك أبو لبابة الأنصاري، واسمه بشير بن عبد المنذر بن رفاعة بن زبير بن أمية، وكني بابنته لبابة وهي البنت الأولى وقد اشتهر بهذا الاسم، وقد كانت وفاته سنة 40هـ، كما تثبت الرّخامة الموضوعة على الضريح في ضواحي قابس، في المكان المعروف “بوادي الغيران” ولم يعرف سبب وفاته إن كان قد توفى مستشهدا أم بسبب مرض الطاعون الذي انتشر آنذاك وعلى الأخص في تلك الأماكن.

في أوج الخلاف بين علي ومعاوية، أرسل هذا الأخير عمرو بن العاص إلى مصر سنة 38 هـ لينازع عليها محمد بن أبي بكر الذي عينه علي بن أبي طالب، وبقي عمرو بن العاص واليا على مصر إلى أن توفي سنة 42 هـ، ولما خمدت الفتنة وتوطدت الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان عيّن هذا الأخير معاوية بن حديج السكوني (غزا الحبشة مع عبد الله بن سعد بن أَبِي سرح، فأصيبت عينه هناك) واليا على مصر، ثم أمر معاوية بن حديج بإطلاق سراح عقبة بن نافع الفهري، الذي سجن زمن الفتنة، ووجهه إلى أفريقية من جديد فبدأ بفتح غدامس (ليبيا) سنة 42 هـ وجزء من السودان سنة 43 هـ وافتتح كل القصور في طريق الصحراء.

الحملة الثالثة على أفريقية سنة 44 هـ

رجع عقبة بن نافع إلى برقة ثم وجه جيشا إلى أفريقية على رأسه عبد الملك بن مروان ومعه عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر بن الخطاب وافتتح عبد الله بن الزبير سوسة سنة 44 هـ ثم جلولاء (تبعد 16 كلم على القيروان) سنة 45 هـ وبعد الفتح استأذن عبد الملك بن مروان في القسمة الغنيمة فأمره معاوية بن حديج بأن يوزع القسمة بالسوية بين الجند فأذعن عبد الملك مكرها ويقول المؤرخون أنه لم يرض بذلك.

ويشهد على هذه الواقعة مقام (قبر) الصحابي أبو زمعة البلوي وهو صحابي جليل واسمه عُبَيْد بن أرقم كَانَ من أصحاب الشجرة، بايع بيعة الرضوان، غزا مع عقبة بن نافع واستشهد بقمونية (مكان قريب من القيروان) سنة 43 هـ وقبره موجود إلى اليوم ويقال له مقام سيدي الصحبي (أي الصحابي).

وفي نفس هذه الغزوة ماتت زينب بنت عبد الله بن عمر بن الخطاب، ودفنت بموضع في القيروان يعرف اليوم بمقبرة “الجناح الأخضر” بباب سلم، وهي أعظم مقابر القيروان دفن فيها عدد لا يحصى من العلماء والفقهاء والقضاة والزهاد والصالحين، وكان يسمى في القديم بمقبرة قريش انتسابا لتلك الفتاة القريشية، وهي أول قرشية اشتمل أديم البلاد التونسية على جسدها الشريف[1].


[1] شهيرات التونسيات – حسن حسني عبد الوهاب – 1933

فتح مدينة بنزرت سنة 46 هـ

بعد أن تم للمسلمين فتح بلاد الساحل وقسم من الوسط (جلولاء، سبيطلة، سبيبة) والجنوب (قابس، قفصة، غدامس)، تحرك معاوية بن حديج إلى أطراف البلاد ففتح بنزرت سنة 46 هـ، وتذكر الروايات أن عبد الملك بن مروان شذ عن الجيش في طريقه إلى صطفورة (وهي بنزرت اليوم) فمر بامرأة عجوز من العجم فقرته وأكرمته فشكر لها ذلك، ولما ولي عبد الملك بن مروان الخلافة كتب إلى عامله بإفريقية (حسان بن النعمان) أن يحسن لها ولأهل بيتها، ويؤخذ من هذه الرواية أن أهالي إفريقية كانوا متعاطفين مع العرب المسلمين الفاتحين وأنهم كانوا يرحبون بهم على اعتبارهم مخلّصين لهم من ظلم الروم وتسلطهم كما يشير إلى ترفق المسلمين بأهالي أفريقية وابتعادهم عن النهب والغصب وسلب الممتلكات.

فتح جزيرة جربة سنة 47 هـ

كتب معاوية بن حديج إلى عامله بطرابلس رويفع بن ثابت الأنصاري (وهو صحابي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم) بأن يخرج في جيشه لفتح جزيرة جربة وإجلاء ما بها من الروم، ففتحها رويفع سنة 47 هـ، وسهل بذلك على المسلمين أن يرقبوا تحركات أعدائهم في البحر، ويذكر حنش الصنعاني في هذا الصدد قوله: “افتتحنا قرية يقال لها: جربة فقام فينا رويفع خطيبا فقال: إني لا أقوم فيكم إلا بما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا يوم خيبر حين افتتحها فقال: ” من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأتي شيئا من السبي حتى يستبرئها ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يبيعن مغنما حتى يقسم ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يركبن دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه “.

فتح شبه جزيرة نابل سنة 48 هـ

سنة 47 هـ استدعى معاوية بن أبي سفيان معاوية بن حديج بأن يقدم إليه إلى الشام وعيّن معاوية بن حديج عقبة بن نافع واليه على برقة مكانه، ثم عيّن معاوية بن أبي سفيان في نفس السنة (47 هـ) مسلمة بن مخلد الأنصاري واليا على مصر وإفريقية معا، وهو صحابي روى عن نفسه فقَالَ: «وُلِدْتُ حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَقُبِضَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَا ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ» وَرَوَى ابْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: «قَدِمَهَا وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعِ سِنِينَ وقُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً».

لما استلم مسلمة بن مخلد الأنصاري الولاية أمر بعزل عقبة بن نافع الفهري وحبسه وعيّن مكانه مولاه أبو المهاجر دينار، الذي أمّر حنش الصنعاني على رأس جيش وكلّفه بفتح “رأس الدار” الذي هو رأس الوطن القبلي اليوم، وافتتح حنش الصنعاني نابل سنة 48 هـ، والتي سميت فيما بعد جزيرة شريك على اسم أول عامل عليها وهو شريك بن قرة العبسي. ونهج الجزيرة الذي ينطلق من باب البحر وسط العاصمة تونس، سمي هذا النهج على اسم جزيرة شريك وهي نابل، وكذلك اسم “باب الجزيرة” هي جزيرة الوطن القبلي.

الحملة الرابعة على أفريقية سنة 50 هـ

كتب معاوية بن أبي سفيان إلى مسلمة بن مخلد الأنصاري يأمره بفك اعتقال عقبة بن نافع وإرساله مبجلا إلى الشام من غير إمهال فصدع بالأمر، وقدم عقبة بن نافع على معاوية فقال: الله! إني فتحت البلاد ودانت لي، ثم أرسلت عبد الأنصار، فأساء عزلي! فاعتذر إليه معاوية، وقال: قد رددتك على عملك والياً.

روى أبو عبيدة بن عقبة بن نافع أن أباه وفد على معاوية بن أبي سفيان، فقرب له الغداء، فقال: اقترب يا عقبة، فاستأخرت، فقال: اقترب يا عقبة، قلت: إني صائم، قال: أما إنها ليست بسُنّة، وكان عقبة على سفر. وهو الذي قال، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “رأيت كأني في دار عقبة بن نافع، فأتينا برطبٍ أبرّ طاب”، قال فأوّلتها الرفعة والعافية، ولقد أجمع الرواة على أن عقبة كان رجلا صالحا مستجاب الدعوة.

تأسيس مدينة القيروان بين 50-55 هـ

غادر عقبة بن نافع دمشق سنة 50 هـ لاحقا بإفريقية بأمر من معاوية، فجدّ في السير ولما وصل علم أن كثيرين ممن أسلم من الأفارقة ارتدّوا وعاثوا في البلاد فسادا، وقد كثرت وتكررت ارتدادات (جمع رِدّة) الإفريقيين (التونسيين) عن الإسلام بين 30 هـ و50 هـ وفي كل مرة ينكث قادتها (البربر) العهد في أداء ما عليهم من الجزية، جمع عقبة بن نافع أصحابه وخطب فيهم فقال: “… إن أهل هذه البلاد ضعفاء الأخلاق تنقصهم العزيمة، إذا عضهم السيف أطاعوا وإذا رُفع عنهم عصوا وعادوا إلى ما كانوا عليه من عاداتهم وأديانهم، ولست أرى أن ينزل المسلمون بين أظهرهم ثم يرتحلوا عنهم رأيًا سديدًا مسلمًا، بل لابد من إقرارهم لتمكين الإسلام في البلاد وقد رأيت في ذلك أن أبني مدينة للمسلمين تكون عمادًا لهم في أمورهم وملاذا يصيرون إليه…”

فاستصوب الحاضرون هذا الرأي، بعد أن فهم عقبة بن نافع طبيعة البربر (التونسيين) أصحاب هذه البلاد وأشفق من أن يدعهم لأنفسهم خاضعين لسلطة الفتح وفي نفس الوقت خاضعين لمختلف الدعايات، فأمدّهم بالمعلمين والمرشدين ليفقهوهم في الدِّين، ولكن وهذا هو المهم أدرك أن ذلك وحده لا يكفي لهدايتهم ما لم يقترن بوجود مؤسسات اجتماعية للمسلمين (مدينة إسلامية جديدة على رأسها مؤسسة علمية ودينية متمثلة في المسجد) يفزعون إليها عند الحاجة، يقتبسون منها معنويات الإسلام، فجعل يفكر في هذه الرعية العظيمة.

فصاروا يفتشون عن مكان صالح لإقامة المدينة، فخرجوا يرددون الجهات حتى وجدوا موضع مسجد مدينة القيروان الحالي، وهو موضع غيضة ذات طرفاء وشجر لا يرام من السباع والحيات والعقارب القتالة وكان عقبة بن نافع رجلا صالحا مستجاب الدعوة، فقال: يا أهل الوادي، إنا حالون إن شاء الله فاظعنوا، ثلاث مرات، قال: فما رأينا حجراً ولا شجراً، إلا يخرج من تحته دابة حتى هبطن بطن الوادي، ثم قال للناس: انزلوا باسم الله..

فأمر بقلع الأشجار وتنظيفها ورسم الخطط وبنى دار الإمارة والمسجد الجامع حيث رأى عقبة بن نافع منامة لرجل يرفع الأذان في ذلك المكان باتجاه القبلة، فأمر بأن يجعلوا المسجد في نفس ذلك المكان الذي هو اليوم جامع عقبة بن نافع، وجعل يبني وبنى الناس حوله حتى أصبحت مدينة تشع بالعلم ونقل الحديث وحفظ القرآن، واستغرق بناؤها من سنة 50 إلى 55 هـ وأطلق عليها اسم “القيروان”.

عزل عقبة بن نافع ثم استعادته

عاد الاختلاف بين مسلمة بن مخلد الأنصاري ومولاه أبي المهاجر دينار وبين عقبة ابن نافع، واختلف المؤرخون حول أسباب هذا الخلاف الذي أودى بعزل عقبة بن نافع عن إمارة الجيش من جديد، وذُكر من الأسباب أنه لما قدم أبو المهاجر دينار إفريقية كره أن ينزل في الموضع الذي اختطه عقبة بن نافع (القيروان)، فمضى حتى خلّفه بميلين، ثم نزل بموضع يقال له كروان فابتناه ونزله.

وبقي عقبة معزولا حتى تولى معاوية بن أبي سفيان الإمارة، فكتب هذا الأخير إلى أبي المهاجر لفك أسر عقبة وإرساله إلى الشام ففعل، وتلقّاه يزيد بن معاوية بالحفاوة والإكرام وبعد أن تحدّث إليه في شأن إفريقية أعاده إلى الولاية وحكّمه في أبي المهاجر وكان ذلك سنة 62 هـ.

الحملة الخامسة على إفريقية سنة 62 هـ

عاد عقبة بن نافع إلى القيروان سنة 62 هـ وصفح عن أبي المهاجر ولم يعامله بالمثل، وقبل أن يخرج لقتال البربر الذين اجتمعوا حول قائدهم النصراني كسيلة والذي ثاروا وامتنعوا عن دفع الجزية، خطب عقبة في أهل القيروان خطبته الشهيرة فقال: “يا بنيّ! إني بعت نفسي من الله، ولا أدري ما يقضي علي في سفري.

يا بني إني أوصيكم بثلاث خصال، فاحفظوها ولا تضيعوها، املؤوا صدوركم من كتاب الله فإنه دليل على الله، وخذوا من كلام العرب ما تهتدي به ألسنتكم ويدلكم على مكارم الأخلاق، وأوصيكم أن لا تداينوا ولو بعتم العباء، فإن الدّيْن ذل بالنهار همّ بالليل، فدعوه تسلم لكم أقداركم وأعراضكم، ولا تقبلوا العلم من المغرورين فيفرّقوا بينكم وبين الله، ولا تقبلوا الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا عن ثقة، ولا تأخذوا دينا إلا من أهل الورع، فإنه أسلم لكم، ومن احتاط سلم ونجا”

جعل زهير بن قيس البلوي على ولاية القيروان وترك له من الجيش ما يكفي للدفاع عن المدينة ثم ودّعهم وخرج في جيش عظيم لدكّ بأس الثوار، ففتح “نوميديا” (حدودها طبرقة وقفصة وقسنطينة وعاصمتها تبسّة) إلى أن وصل إلى تلمسان فأعاد الصلح الذي أبرمه أبو المهاجر دينار مع أهلها ثم عبر الريف المغربي إلى أن وصل إلى سبتة فتلقاه ملكها الكونت جوليان Comte Julienوأبرم معه الصلح[*]، ثم نزل إلى بقية بلاد السوس الأدنى (أغادير) حتى دخل بحافر حصانه إلى ماء المحيط، وهو يقول: “اللهم إنك تعلم أنني أريد أن لا يُعبد على وجه الأرض أحد سواك، وأني لو كنت أعلم أن وراء هذه البحار أرضا لوطئتها أذكر فيها اسمك العلي العظيم، اللهم اشهد أني قد بلغت عذرا”.

ثم كرّ راجعا إلى إفريقية حتى وصل إلى باتنة بالجزائر (مسافة 8 أيام على القيروان) فأرسل جيشه ليتقدموه إلى القيروان فوجا بعد فوج وبقي هو في 300 جندي معهم أبو المهاجر، فوصل إلى مسامع كسيلة وجود عقبة بن نافع في قلة من الجند فسوست له نفسه بالغدر والخيانة وهو الذي أظهر إسلامه مع أبي المهاجر منذ عهد قريب.

كسّر أصحاب عقبة أغماد سيوفهم وقابلوا كسيلة بشجاعة وبسالة الفاتحين فاستشهد عقبة ومن معه سنة 63 هـ في معركة دامية وغير متكافئة بعد خيانة وغدر قائد البربر كسيلة، وقبره موجود إلى اليوم في مدينة بسكرة بالجزائر، ولم ينج منهم إلا نفر قليل على رأسهم الفقيه محمد بن أوس الأنصاري، خلّصهم صاحب قفصة من أيدي كسيلة وسلمهم إلى زهير بن قيس بالقيروان.

  • [*] تروي القصص أن جوليان أرسل ابنته فلورندا إلى محكمة القوط الغربيين في طليطلة لتعليمها (ولا شك أنه عربون ولاء) وأن روديريك حاكم طليلطة اغتصبها وجعلها حاملا. تضخّم القصص أهمية هذه الحادثة وتنسب إليها عداء جوليان لحاكم الأندلس بعدما تعرضت ابنته للعار، وتروي القصص أن ابنة جوليان أرسلت رسالة إلى الكونت الغائب وهي تبكي، زُعم أنها كتبت فيها: “أبي، شرفك وشرفي قد تلطخ واتسخ، كان من الأفضل لك ولي لو قتلتني بدلاً من إرسالي إلى هنا، انتقم لنفسك وانتقم لي”. بعد قراءة هذه الرسالة، كان الكونت جوليان قد أقسم على صليب سيفه لانتزاع مثل هذا الانتقام من الملك، بحيث ينفجر بشكل لا مثيل له وسيكون متناسبًا مع الجريمة.. لكن ربما لعبت الأسباب السياسية دورًا أكبر. وقد ساعدت هذه الحادثة على التسهيل لطارق ابن زياد فيما بعد الوصول إلى شاطئ الأندلس.

اختلاف المسلمين بشأن الثأر لعقبة

عند وصول خبر الفاجعة بالغدر بعقبة بن نافع وأصحابه من قبل كسيلة، خطب زهير بن قيس (الذي خلفه عقبة على إمارة القيروان) في الناس قائلا: “يا معشر المسلمين، إن أصحابكم قد دخلوا الجنة، وقد من الله عليهم بالشهادة، فاسلكوا سبيلهم، ويفتح الله لكم دون ذلك”، فاعترض عليه حنش الصنعاني وقال: “يا معشر المسلمين من أراد منكم القفول إلى مشرقه فليتبعني” فاتبعه الناس، وكان حنش الصنعاني مسموع الكلمة، فتراجع زهير بن قيس بدوره ولحق بقصره في برقة، ولبثوا كذلك حتى بلغ الناس خبر وفاة يزيد بن معاوية واضطرابهم فيمن يولون الإمارة من بعده وقد تخلى عنها معاوية بن يزيد بعد وفاة أبيه سنة 64 هـ.

جمع كسيلة البربر من حوله ودخلوا القيروان فلم يجدوا غير العوائل والذراري ولم يجدوا جيشا، فصانعهم بالتأمين وخلى حال سبيلهم ليواجهوا بأنفسهم مصيرهم، ومكث كسيلة في القيروان حاكماً لمدة أربع سنوات حتى دانت له جميع البلدان التي كانت تدين للمسلمين.

الحملة السادسة على إفريقية سنة 67 هـ

لما استقرت الإمارة لعبد الملك بن مروان سنة 65 هـ وكان عبد الملك من الذين شاركوا في فتح إفريقية خلال الفتح الأول سنة 27 هـ وهو يعلم أهميتها ومنزلتها، فأشار عليه أكابر المسلمين في أن يستعجل في استردادها واستنقاذها والقصاص من قتلة عقبة وأصحابه، بعد أن فتح كسيلة اتصالاً مع الروم، فتنبه عبد الملك بن مروان إلى ذلك على الرغم من انشغالاته بالحرب الدائرة بين الحجاج بن يوسف وعبد الله بن الزبير، فكتب إلى زهير بن قيس وأمدّه بجيش ثم سرّحه سنة 66 هـ لقتال كسيلة.

لما سمع كسيلة بمقدم زهير بن قيس جمع أصحابه واستشار من حوله من البربر وحلفاءه من الروم، وأجمعوا على أن يخرجوا من القيروان على أن يلاقوهم في مكان يسمّى “ممش” قرب القيروان، فأقبل زهير بن قيس وأقام بالقيروان ثلاثة أيام ثم خرج لمقابلة كسيلة وجنوده، ولم ينته النهار حتى مالت رياح النصر إلى صفوف المسلمين فتعقبوا آثار كسيلة حتى قتلوه.

ثم أخذ المسلمون يطاردون من كانوا مع كسيلة من البربر وفلول الروم حتى استأصلوهم وافتكوا من أيديهم بلادا كثيرة لم يطؤوها من قبل منها الإربس (وهي مفترق مهم لعدة طرق تؤدّي إلى القيروان وإلى الزّاب وإلى باجة وتونس) وباجة والكاف والتي فتحها كلها زهير بن قيس سنة 67 هـ، ثم عاد إلى القيروان وفرح المسلمون بمقدمه وتبادلوا التهاني.

استشهاد زهير بن قيس سنة 69 هـ

أقام زهير بن قيس بالقيروان سنة كاملة وبضعة أشهر، شعر خلالها بفتنة السلطان والمال بعد أن دانت له سائر البلدان وتوطدت سلطة الإسلام في كل البلاد، وتراءى له بولايته ملكا عظيما لم يتسنّ له مع زهده وورعه وهو الناسك المقصور على محبة الجهاد وملاقاة الأعداء على جبهات القتال، ولم يزل كذلك حتى بلغه أن الروم البيزنطيين (ضمن اتفاق مسبق مع كسيلة) أرسلوا قواربهم من جهة سواحل برقة ليقطعوا عليه الطريق والمدد مع الشرق، فترك القيروان وذهب يتعقب آثارهم.

خرج الروم بمراكبهم من جزيرة صقلية ونزلوا ببرقة (بنغازي) فأصابوا منها سبيا كثيرا وقتلوا وانتهبوا ثم أقلعوا بغنائمهم ووقفوا بالبحر من جهة درنة يرصدون مقدم زهير بن قيس، فأرسل هذا الأخير جيشه إلى برقة ليقتفوا آثار الروم بعد أن يلغهم ما فعلوا بها وبأهلها، وقفل زهير بن قيس في ثلة قليلة من جنده على الساحل يتبع آثار الروم إلى أن وصل درنة.

ولما رأى زهير بن قيس ما يفعله الروم بأهالي درنة حتى تحركت فيه شيم العروبة والإسلام وتقدم لإنقاذهم، وألوى عنان فرسه نحو الروم ونادى في أصحابه النزال النزال، وكانوا من أشراف العابدين ورؤساء المجاهدين جلهم من التابعين، فالتحم بينهم القتال واستشهد جميع من كان مع زهير بن قيس ثم فر الروم في مراكبهم إلى القسطنطينية فزعا من أن يدركهم الطلب من المسلمين وكان ذلك سنة 69 هـ.

ثورة الكاهنة وتفرّق المسلمين حول الخلافة

اجتمع الناس حول امرأة تدعى الكاهنة واسمها دِهْيَة بنت تابت بن تيفان، وسماها العرب “الكاهنة” لأنها كانت وثنية تعبد صنما من خشب، وتنقله على جمل، وقبل كل معركة تبخّره وترقص حوله، تمكنت من توحيد أهم القبائل البربرية حولها كما استغلت تفرّق المسلمين بعد مقتل زهير بن قيس وحرّضت البربر على مقتل قائدهم كسيلة لأخذ بالثأر وطرد المسلمين من هذه الديار.

هذا والحال أن المسلمين في المشرق قد تفرقوا واختلفوا حول الخلافة بعد وفاة يزيد بن معاوية سنة 64 هـ، فطلب الخلافة عبد الله بن الزبير بعد أن بايعه أهل الحرمين وناصره أخوه مصعب بن الزبير في العراق، وادعى بها آخرون في فارس والكوفة واليمن، حيث اجتمع على جبل عرفات في حجة 68 هـ، أربعة ألوية كل واحد يدعي الخلافة لنفسه، وذلك حال المسلمين في المشرق فكيف بحالهم في المغرب.

انتهت دولة عبد الله ابن الزبير بمقتله سنة 73 هـ، بعد أن حاصره الحجاج بن يوسف الثقفي في مكة، واستقر أمر الدولة إلى عبد الملك بن مروان، فانتدب هذا الأخير حسان بن النعمان الغسّاني سنة 76 هـ لقتال الكاهنة والمتمردين بإفريقية وجبال الأوراس جنوب قسنطينة، وكان حسان بن النعمان عامل عبد الملك بن مروان على مصر بعد استشهاد زهير بن قيس.

الحملة السابعة على إفريقية سنة 76 هـ

ولد حسان بن النعمان بالشام، وأسلم عند الفتح الإسلامي للشام مع أهله، حفظ القرآن والسنة النبوية وأتقن العلوم الفقهية، وروى عن عمر بن الخطاب، دخل إفريقية سنة 76 هـ على رأس جيش جرار، فدخلها القيروان دون أن يواجه أي مقاومة بعد أن علم أن قوة الروم في قرطاجنة القاعدة البيزنطية على الساحل، فسار حسان إلى قرطاجنة وحاصرها من جهة زغوان حيث الحنايا التي توزع مياه الشرب على قرطاج، فقطع عنهم مياه الشرب وجرت له معهم معارك ففر منهم من فر إلى جزيرة صقلية والأندلس واستسلم منهم من استسلم.

فتح مدينة تونس سنة 68 هـ ثم قرطاج سنة 78هـ

دخل حسان بن النعمان قرطاج مدينة عليسة سنة 78 هـ لأول مرة واستبشر بمقدمه أهلها بعد أن خلّصهم من الروم البيزنطيين ورثة الرومان الإيطاليين، والحال أن سكان قرطاجنة أصلهم فينيقيين وليسوا بالرومان، وبعد أن استولى على قرطاج واجتاحها أعاد مدينة تونس التي فتحها زهير بن قيس أول مرة سنة 68 هـ، وأقام حسّان بالمدينة جامع الزيتونة المعمور بناه سنة 79هـ وفي خصوص تسمية هذا الجامع بجامع الزيتونة، فالروايات قد اختلفت، فمنها ما ذهب إلى أنّ الجامع بني في موضع كان مشجرا بالزياتين، قطعت كلّها ولم تبق إلاّ زيتونة واحدة في وسط ساحة الجامع فسمي بها.

بينما كان حسان بن النعمان يستعد للعودة إلى القيروان سمع باجتماع فلول الروم وحلفاءهم البربر في جهة بنزرت فتوجه إليهم من جديد، ففر الرّوم إلى باجة حيث تحصّنوا بحصون دقة، وفر البربر إلى عنابة، فرجع حسان إلى القيروان لاستجماع جهوده واستراحة جنده ثم عاد إليهم واستعاد بنزرت وباجة بعد أن اجتمع البربر حول الكاهنة بقسنطينة وجبال الأوراس.

استعجل حسان بن النعمان الخروج للكاهنة مخافة أن يقدم إليه الروم البيزنطيين عن طريق البحر والذين غضبوا أشد الغضب على أخذ حسان لمدينة قرطاج، فخرج للكاهنة والتقى الجمعان في مسكيانة بالجزائر بين تبسة وقسنطينة، فانهزم حسان وقتل كثير من جنده وأُشر آخرون، فتراجع حسان ولحقته الكاهنة إلى قابس، حتى وصل إلى قصور حسّان قرب مدينة سرت بليبيا (بين بنغازي ومصراته)، وقد سميّت كذلك للتذكير به.

سبب سقوط قرطاج انفعالا كبيرا ببيزنطة، فأرسل إمبراطورها (Léontius) أسطولا قويا لاستعادة المدينة، وذلك بعد جلاء حسّان عن إفريقيّة، وقد بقي حسّان ثلاث سنوات في برقة ينتظر أمر عبد الملك بن مروان في استعادة الهجوم على إفريقية.

مقتل الكاهنة وانتهاء حملات الفتح الإسلامي على إفريقية سنة 82 هـ

ظل حسان بن النعمان يبعث بالعيون ويرقب أمور البربر والروم في انتظار أمر الخليفة باستعادة الهجوم على الكاهنة، ولما بلغه ما فعلته الكاهنة من تخريب المدن وتدمير الحصون وقطع الأشجار ظنا منها أن العرب والمسلمين جاؤوا إلى بلادها طمعا في الأموال والنساء والخيرات، وبعد أن علم أن البربر اختلفوا حول الكاهنة وتفرقت كلمتهم وأن الفرصة أصبحت سانحة لاستعادة البلاد، كتب إلى عبد الملك بن مروان فأذن له بالخروج إلى قتالهم.

خرج حسان بن النعمان في جيشه إلى إفريقية للمرة الثانية سنة 82 هـ فوصل قابس حتى خرج إليه أهلها مستبشرين ومهللين بقدومه لما بلغهم من الضيم وجور الكاهنة وفسادها وخرابها لممتلكاتهم وكذلك فعل أهل قفصة ونفزاوة، والتقى بالكاهنة في الجم وصارت بينهم معركة متكافئة قتل فيها من الأرواح العدد الكبير، إلى أن ماحت رياح النصر لحسان فتراجعت الكاهنة ولحقها حسان إلى أن قتلها بطبرقة وقيل بتبسة بالجزائر.

دخل حسان بن النعمان القيروان في رمضان سنة 82 هـ منتصرا ومخلصا أهالي إفريقية من الفساد والدمار الذي ألحقته الكاهنة بممتلكاتهم وحصونهم وأشجارهم ومزارعهم، ثم خرج إلى تونس لطرد الروم البيزنطيين الذين أرسوا بسفنهم فيها وفي الجزر المجاورة للسواحل التونسية، فخرج لهم حسان بالسفن واسترجع كل البلاد التونسية من الروم بعد أن استسلم له البربر وأطاعوه.

ثم تفرّغ حسان بن النعمان إلى الإصلاحات، فأبطل الإقطاع ومسح ووزع الأراضي على المتساكنين الأصليين من البربر، وأمر بنقل الإدارة من قرطاج إلى القيروان لتأمينها من مخاطر السواحل، فنظم الدواوين ومهّد الطرقات وشيّد المحارس والرباطات لإيواء الجنود والخيول ودفع الناس إلى العمارة والغراسة، وبناء المساجد ووسّع في جامع عقبة واهتم بتنشيط العلوم فيه (حفظ القرآن ونقل الحديث).

الحرية وحدها لا تأتي بالعدل

كل شيء له معنى ودلالة ولا شيء يخضع لقانون الصدفة أو العبث، فعندما قدم المسلمون، الذين كل قادتهم عرب بل جلهم من الصحابة والتابعين، إلى إفريقية وفتحوها سنة 27 هـ ثم في 42 هـ ثم في 50 هـ ثم في 67 هـ ثم في 76 هـ وخلّصوا أهلها من بطش الروم وظلم البرابرة، وكانوا قد منحوا أهل البلاد الحرية ولكنهم لم يحكموهم بالعدل، فكم من وفد ذهب لملاقاة أمير المسلمين للشكوى من فساد الحكام العرب واستعباد نساء البربر

ولقد حكم العرب كل البلدان التي فتحوها (وليس تونس فحسب) بمنح الحرية للأهالي ولكن الحكم ظل فاسدا مستبدا إلى يومنا هذا… تونس بعد الثورة تعيش نفس الوضع: حرية ولكن مع غياب العدل.

المهدي بن حميدة
في 7 فيفري 2020


المهدي بن حميدة

المهدي بن حميدة

العمر 55 سنة - متزوج وأب لثلاثة أطفال (بنتان وولد) - مقيم بسويسرا منذ 9 ماي 1992.
كاتب ومتابع للشأن السياسي والعربي والإسلامي - مدير شركة خاصة في الطباعة والتصميم والتوزيع.

أظهر كل المقالات