fbpx

باب البنات في تونس العاصمة: من هن هؤلاء البنات؟

باب البنات في تونس العاصمة

سنة 543 هـ/1148 م استولى النورمانديون (Vikings)[1] على شطوط شمال إفريقية من طرابلس الغرب إلى الجزائر، وطاب لهم المقام فيها بعد أن ضعف شأن أهلها بتسلط همجية الأعراب (بنو هلال)[2] على بلادهم فعجزوا عن دفع غارة الأجانب عليها، إلى أن قدم لنجدتهم سنة 555 هـ مؤسس الدولة الحفصية أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي[3] بعد انتصاراته الحاسمة على الإسبانيين في الأندلس، فطرد النورمانديين من البلاد، واستمر أبناؤه في بسط نفوذهم على إفريقية إلى أن قامت ثورة يحيى ابن غانية والمشتهر “بالميورقي” لاستيلائه على الجزائر الشرقية من الأندلس (ميورقة ومنورقة ويابسة).

وبنو غانية سلالة صنهاجية من بقايا أمراء المرابطين، قادوا ثورة (عرفت بثورة الملثمين) في أفريقية من 6 شعبان 580هـ إلى 631هـ، هدفت إلى إحياء دولة المرابطين والقضاء على امبراطورية الموحدين التي تغلّبت على الأندلس، فاستبد الميورقي بالجزر الشرقية للأندلس وأخذ يحشد الجيوش والأساطيل لمقاومة خلفاء عبد المؤمن بن علي، وتدافعت به مطامعه إلى إفريقية فاغتصب قابس وصفاقس والمهدية ووثب على الحاضرة تونس وحاصرها أياما، وبقي يحيى ابن غانية يغدو ويروح بين الثغور الإفريقية يجبي الإتاوات والضرائب من الضعفاء المساكين ويذيق الحاضر والبادي أنواعا من الظلم ويسومهم أصنافا من العسف والجور، واستمر على ذلك إلى أن جلس الأمير أبو زكريا الحفصي على العرش سنة 625 هـ.

عمد أبو زكريا بنفسه إلى يحيى ابن غانية واعتزم إنزاله من صياصيه، فقصده بجهة قابس سنة 631 هـ وبعد معارك عنيفة تمكن من تشريد جموعه والاستيلاء على ربوعه والإيقاع بأتباعه، فلما تمت الهزيمة بمعسكر ابن غانية فر نحو الصحراء الكبرى بالجزائر، وكان له ثلاث بنات ليس له من الولد سواهن.

ولما أحس بدنو أجله وأيقن بخيبة أمله وتلاشى ماله وولده بعد موته، أراد ان يأمن على بناته وفلذات كبده من غوائل الدهر وتصاريف الأيام، فسيّر بناته الثلاثة من الصحراء إلى عدوّه بالأمس وخصمه المبين الأمير أبي زكريا، التجاء إلى محاسن شيمه وكرمه وسوابغ عدله وحلمه، ولما وصلن إلى الحاضرة تونس، اقتبلهن الأمير على الرحب والسعة وأنزلهن منزل الكرامة أثيرات مغبوطات، فأقمن في ظل ظليل وعيش بليل.

قال العلامة ابن خُلدون: “فأحسن الأمير أبو زكريا كفالتهن وبنى لهن بحضرة ملكه دارا لصونهن معروفة لهذا العهد بقصر البنات، وأقمن تحت جرايته وفي سعة من رزقه مقصورات معضولات لوصاة أبيهن بذلك”، وكان هذا القصر بالحومة المعروفة اليوم بحومة “باب البنات” من مدينة تونس، سميت بذلك لمجاورة قصر البنات المخصص لبنات يحيى ابن غانية الثائر على الدولة الحفصية.

أما الأميرات الميورقيات فقد كن سريات النفوس، عاليات الهمم، لهن أنَفَة وشمم، يتهن على الدهر زهوا وكبرا توارثنهما عن الإمارة بالرغم من غروبها عن بيتهن، ومما ينقل عن زهوهن أن ابن عم لهن خطب إحداهن إلى أبي زكريا، فبعث الأمير قهرمانة قصره تبلغها الخطبة على لسانه، وقد جعل ضمن خطابه: “هذا ابن عمك واحق الناس بك، لقرابته منكن وكفاءته لكن”، فكان جواب المخطوبة: “لو كان لنا ابن عم ما كفلنا الأجانب!” ولم تزده على ذلك كلمة.

فأمسك عليهن أبو زكريا ولم يتغير لهذه المجابهة العنيفة لما أوتي من الحلم وسعة الصدر، بل زاد في إكرامهن وبالغ في رعايتهن، وقد هلكن عوانس وبلغن من الكبر عتيا، ولم يمتعن بحظ الزواج، قال ابن خُلدون: “أخبرني والدي -رحمه الله- أنه أدرك واحدة منهن أيام صباه في سنوات 710 هـ وهي تناهز التسعين من السنين (بمعنى انها دخلت في كفالة أبي زكريا وعمرها 10 سنين)، قال: لقيتها وكانت من أشرف النساء نفسا، وأسراهن خُلقا، وأزكاهن خِلالا”.

واما يحيى ابن غانية أبو البنات، فقد تشتت شمله في قلة من بطانته وبقي شريدا طريدا في الصحراء ينتاب التلول القاحلة والمفاوز القفرة حتى هلك ولقي حتف أنفه سنة 631 هـ، وانقرض بمهلكه أمر الملثمين من بلاد إفريقية والمغرب والأندلس وانقطع أثره، وقُطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين، والأمر كله بيد الله يؤتيه من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.

نشرت القرون على مؤسس الأسرة الحفصية غبار الزوال، وادرجت أخباره في أكفان التاريخ فلم يبق منها بين أيدينا إلا ذكرى سيرته وأثر حلمه وسعة صدره وجميل عفوه، تتناقلها الأفواه وتشهد بفضله ومواهبه الدفاتر والأقلام، على تعاقب الأجيال، وتكرر الأيام والليال، وسيبقى اسمه حاميا ناميا توالي السنوات، ما لقيت في مدينة تونس حومة تسمى “باب البنات”.

المؤرخ حسن حسني عبد الوهاب
حرّر بشاطئ خير الدين – تونس
في 29 رمضان 1336 / الموافق لـ 8 جويلية 1918


[1] النورمان أو النورمانديون Normans، أصل الكلمة بالفرنسية أو الاسكندنافية وتعني حرفيًا “رجال الشمال” وهو شعب من أقدم الشعوب التي استوطنت الأراضي الاسكندناڤية، وفي السابق كانت كلمة نورمان تستخدم لوصف الفايكنج Vikings.

[2]  وهو ما يعرف بزحف قبائل بني هلال، قال ابن خُلدون: “وجاء الأعراب فدخلوا البلد واستباحوه واكتسحوا المكاسب وخرّبوا المباني وعاثوا في مساكنها، وطمسوا من الحسن والرونق معالمها، واستصفوا ما كان لآل بلكين الصنهاجيين في قصورها، وشملوا بالعبث والنهب سائر من فيها، وتفرق أهلها في الأقطار، فعظمت الرزيّة واستشرى الداء وعضل الخطب واضطرب أمر إفريقية وخُرّب عمرانها وفسدت سابلتها … وعاجوا على ما هنالك من المصار وأزعجوا سكانها، وعطفوا على المنازل والقرى والضياع والمدن فتركوها قاعا صفصفا أفقر من بلاد الجن وأوحش من جوف العير … وسارت قبائل دباب وعوف والزغب وجميع بطون هلال إلى إفريقية كالجراد المنتشر لا يمرون بشيء إلا أتوا عليه حتى وصلوا القيروان سنة 449 هـ”.  

[3] عبد المؤمن بن علي الكومي (487هـ – 558هـ) كان الخليفة المؤسس لدولة الموحدين وحكمها من العاصمة مراكش من سنة 541 هـ وحتى 558 هـ.

المهدي بن حميدة

المهدي بن حميدة

العمر 55 سنة - متزوج وأب لثلاثة أطفال (بنتان وولد) - مقيم بسويسرا منذ 9 ماي 1992.
كاتب ومتابع للشأن السياسي والعربي والإسلامي - مدير شركة خاصة في الطباعة والتصميم والتوزيع.

أظهر كل المقالات