fbpx

قضية “الكاريكاتير” بين احترام المقدس وحرية التعبير

  • المهدي بن حميدة الكاتب: المهدي بن حميدة
  • الخميس 12 ربيع الأول 1442 الموافق لـ 29 أكتوبر 2020
  • 0
  • 911 مشاهدة
نبي الإسلام محمد رسول الله

لا أحد يشكك في مبدإ حرية التعبير الذي أصبح ليس فقط بندا عالميا ضمن الميثاق العالمي لحقوق الإنسان بل هو مبدأ إسلامي أيضا، فقد جاء في الميثاق العالمي لحقوق الإنسان:

المادة 18. لكلِّ شخص حقٌّ في حرِّية الفكر والوجدان والدِّين، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في تغيير دينه أو معتقده، وحرِّيته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبُّد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة.

المادة 19. لكلِّ شخص حقُّ التمتُّع بحرِّية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقِّيها ونقلها إلى الآخرين، بأيَّة وسيلة ودونما اعتبار للحدود (الجغرافية).

كما أن القرآن الكريم أقر بحق الاختلاف وتعدد الآراء وتنوعها، حيث جاء في قول تعالى: “وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ”{هود:118}، وضمن القرآن الكريم حرية المعتقد واختيار الدين الذي يريده صاحبه بدون إكراه، فقد جاء في قوله تعالى: “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ “{البقرة:256}، وقد أقر في نفس الوقت بأن الدين عند الله هو الإسلام، “إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ” {آل عمران:19}، ولكنه ترك حرية اختيار للدين بحسب اقتناع الفرد وحريته، وقد خاطب القرآن محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله :”أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ” {يونس:99}.

وفيما يتعلق باحترام مقدسات الآخرين، فقد نهى القرآن المسلمين بأن يتعرضوا بالسب لآلهة غير المسلمين (مشركو مكة) حتى لا يعاملونهم بالمثل، فقال الله تعالى: “وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ” {الأنعام:108}، فهذه الآية تشير إلى منطق عقلائي، فعندما تتعرض لمقدسات الآخرين سيستثيرهم هذا الأمر، فيسبوا مقدساتك بجهل منهم.

عدم احترام مقدسات الآخرين مرده الجهل

باعتراف مدلول الآية “وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ” {الأنعام:108}، فإن التعرض لمقدسات الناس بالسب والازدراء والسخرية مرده الجهل، فالجهل بمقدسات الناس وخصوصيات دينهم هو الذي يجعل البعض يتعرضون لهذه المقدسات.

ولو عدنا لمثال الكاريكاتير والرسومات التي نشرت في أوروبا والتي صورت النبي محمدا بشكل يمس من مشاعر المسلمين ويخدش في مقدسهم وهو نبي الإسلام، لوجدنا أن سبب هذا التعرض لنبي الإسلام هو الجهل، والجهل له عدة فروع وأسباب ومن أكبر أسباب الجهل هو الكبرياء والغرور.

فأوروبا التي تعرضت لرسول الإسلام بالسخرية ورسم النبي محمدا في شكل كاريكاتير مسيئة، يجعلنا نفهم (كمسلمين) مسألتين ضمن هذا الموضوع:

1-حرية التعبير: فحرية التعبير التي تأسست عليها المنظومة الغربية من علمانية وحرية الصحافة والنشر، ضمنت هذه الحرية ضمن حدود حرية الآخرين، فأنا عندما أريد التعبير على رأي لا يجب أن أتعرض بالإساءة لغيري، ويجب أن أعبر عن رأيي بدون المساس بأعراض الأخرين ومقدساتهم ومعتقداتهم، وقد أشار الميثاق العالمي لحقوق الإنسان بأن حرية المعتقد مكفولة يعني محترمة ومضبوطة (بقانون).

2- الاحترام: بالإساءة لنبي الإسلام ورسمه في كاريكاتير مسيئة فقد افتقدت أوروبا (المسيحية) لقاعدة الاحترام لدين المسلمين ولنبي الإسلام، وهذا مرده عدم اعتراف أوروبا بأن محمدا نبي أو الجهل بنبوءة محمدا، وبالتالي يحق لهم التعرض له بالكاريكاتير ورسمه بالطريقة التي يرونها بدون حدود وبدون علم.

وبالنظر إلى تاريخ نشوء وتطور الرسوم الكاريكاتيرية في أوروبا وفرنسا خصوصا، فقد نشأت هذه الممارسة في إطار التعبير عن رأي ساخر تجاه “سلطة” ما في المجتمع، ابتداء بالملك في المملكة الفرنسية إلى القديس في الكنسية إلى أي جهة شخصية أو معنوية تمثل سلطة في المجتمع الفرنسي.

ولئن تجرّأت بعض الأقلام الأوروبية على رسم المسيح عليه السلام في شكل كاريكاتير لتوجيه النقد والتجريح للكنسية ورجال الكنسية، إلا أن ذلك لم يكن ظاهرة عامة وانحصرت هذه الكاريكاتير في الزمان والمكان بشكل لا يعطي أهمية لهذه الرسومات من جهة، ومن جهة أخرى فإن المسيح نبيئهم ولهم حرية التعرض له بما يشاءون، غير أن رسم الكاريكاتير في شخص نبي الإسلام محمدا، فإن ذلك يعتبر تعد على معتقدات الأخرين الذين يشكلون ربع سكان الأرض، في حين بالكاد يصل عدد سكان أوربا إلى ربع المليار (عدد المسلمين في العالم يصل إلى 2 مليار).

فالجهل بالإسلام وبنبي الإسلام وبالرسالات السماوية عموما هو الذي يجعل بعض الأقلام (في أوروبا) تصور نبي المسلمين بشكل مسيء لا يحترم قاعدة “حريتي تقف عند ابتداء حرية الآخرين”، وبشكل يمس من مقدسات المسلمين ويخدش مشاعرهم الدينية.

الاعتذار عن الخطإ لا يحد من حرية التعبير

أول من ابتدأ بتصوير نبي الإسلام في شكل كاريكاتير ساخر – نشرته صحيفة معروفة- هو الصحفي السويسري Alex Ballman (من مواليد 1 أفريل 1972) الذي تولى نشر كاريكاتير في جريدة “الحرية”، “La liberté” ذات 21 جانفي 2004 تحت عنوان” A Fribourg, quand les femmes musulmanes font « bains à part »” (في فريبورغ، عندما يتخذ النساء المسلمات المسابح بمعزل عن الرجال) حاملا صورة كاريكاتورية تصور رجلا مكتوب على مظلته محمد بالفرنسية (Mahomet) وهو يضرب الماء بعصا طويلة ليشق الماء ويفصل بين الرجال والنساء اللاتي يرتدين « bikini » (زي السباحة الغربي) ومنقبات على طريقة لا تمت للواقع بصلة، الأمر الذي يوحي بالسخرية تصريحا، ناهيك عن الهيئة التي ذهبت إليها قريحة هذا الصحفي ليتخيل خاتم النبيين في هذه الصورة.

في فريبورغ، عندما يتخذ النساء المسلمات المسابح بمعزل عن الرجال، تاريخ صدور الكاريكاتير 21 جانفي 2004
في فريبورغ، عندما يتخذ النساء المسلمات المسابح بمعزل عن الرجال، تاريخ صدور الكاريكاتير 21 جانفي 2004

ثم بعد تتالي ردود فعل المسلمين من مختلف دول العالم الإسلامي وذلك بإرسال رسائل إلكترونية للجريدة وبعد تحرك جمعيات إسلامية في سويسرا للتنديد بهذا الانتهاك، فقد اضطرت الصحيفة إلى سحب الكاريكاتير من موقعها الإلكتروني بعد أسابيع من نشر العدد المذكور، كما أن الصحفي الشاب قد اعترف بخطئه في برنامج تلفزي خصص لهذا الموضوع، وعبر عن عدم استعداده لإعادة هذه الصورة مرة أخرى وأنه “صعق” من ردة فعل المسلمين من مختلف دول العالم الإسلامي.

الإصرار على الخطإ يزيد من تعقيد الوضع

في حين نشرت الصحيفة الدنماركية “جيلاندز بوستن” (Jyllands-Posten) في عددها الصادر يوم 30 سبتمبر 2005، رسوماً كاريكاتورية مسيئة للرسول محمد عليه الصلاة والسلام تولى رسمها الصحفي Kut Westergaard (من مواليد 13 جويلية 1935)، ثم أعادت بعض الصحف الأوربية نشرها تحت دعاوى “التضامن” مع “حرية التعبير”، وعلى رأس هذه الصحف الصحيفة الساخرة Charlie Hebdo التي زادت على الرسومات الدنماركية رسومات أخرى خاصة بها قام بتصويرها الصحفي Jean Cabut (من مواليد 13 جانفي 1938) والصحفي Bernard Verlhac (من مواليد 21 أوت 1957).

أمام إصرار كل دول أوروبا تقريبا على إعادة نشر الرسومات الدنماركية، تتالت ردود فعل المسلمين بالتظاهر في كامل أنحاء العالم الإسلامي وكذلك مسلمو أوروبا، مما جعل ضحايا وجرحى يسقطون خلال هذه التظاهرات، وامتدت هذه الأزمة العالمية سنة أو يزيد وذلك من تاريخ إصدار الرسومات في الدنمارك يوم 30 سبتمبر 2005 إلى أواخر 2006، ولم تتراجع الصحيفة لا الدنماركية ولا الفرنسية عن هذه الرسومات.

وفي غياب الاعتذار، ظلت هذه الأزمة عالقة في أذهان الناس تغذي مشاعر الكره والازدراء بالأديان من الجهتين (المسلمين وباقي الأديان)، وتفتح الباب على التطرف والإرهاب، مما حدث بالفعل حيث قام في 2015 مجموعة من الشباب باقتحام مقر الصحيفة الساخرة Charlie Hebdo في باريس وذهب خلال هذه العملية 17 ضحية اهتزت لها كل أوروبا.

العنف يولد العنف

أمام حادثة شارلي إبدو في 2015، وبمناسبة مرور منفذي العملية على المحاكمة خلال شهر سبتمبر 2020، قام أستاذ تاريخ في أحد المعاهد الفرنسية بداية شهر أكتوبر 2020 بعرض الصور الكاريكاتورية على تلاميذ قسمه، مما جعل شابا شيشانيا يقوم بارتكاب الخطإ والقيام بذبح الأستاذ الفرنسي، مما جعل موضوع الكاريكاتير يطفو على السطح الفرنسي والدولي من جديد ويجعل العنف اللفظي والجسدي المتبادل هو سيد الموقف، غير أن المختلف في الموضوع هذه المرة هو تبني الدولة الفرنسية، على لسان رئيسها إيمانويل ماكرون، لهذه القضية والدفاع على نشر الرسومات وإعادة نشرها وتعميمها، مما جعل المسلمين في بعض الدول يستعيدون نفس المعركة ولكن بأدوات مختلفة هذه المرة، ألا وهي المقاطعة الاقتصادية للبضائع الفرنسية.

المهدي بن حميدة
في 29 أكتوبر 2020

المهدي بن حميدة

المهدي بن حميدة

العمر 55 سنة - متزوج وأب لثلاثة أطفال (بنتان وولد) - مقيم بسويسرا منذ 9 ماي 1992.
كاتب ومتابع للشأن السياسي والعربي والإسلامي - مدير شركة خاصة في الطباعة والتصميم والتوزيع.

أظهر كل المقالات