fbpx

الإنسانية والعودة للأصول: اللغة والنص

الاستقلال أمل يتبعه عمل جمال الدين الأفغاني

الإنسانية الإغريقية

عند احتكاك الأوروبيين بالشرق الإسلامي خلال الحملات والحروب الصليبية (1095-1291)، ثم خلال السطو على الموروث العلمي الضخم لحضارة الأندلس (1242-1492) وما بعدها، بدأت تتكون لدى الغربيين تطلعات نحو تثبيت الذات والبحث عن الجذور والأصول الفلسفية والدينية للرجل الأوروبي، فنشأت حركات فكرية وفلسفية تعبر عن هذه القاعدة في العودة إلى الأصل للانطلاق نحو الحديث أو المستحدث.

فجاءت الموجة الإنسانية (L’humanisme) وهي حركة فكرية أوروبية نشأت بمدينة فلورنسا بإيطاليا خلال القرن الرابع عشر على يد Francesco Petrarca (1304-1374)، وذلك بالعودة إلى نقوش على حجارة روما القديمة ليستمر في بحثه عن القدماء في المخطوطات، ثم استمرت إلى القرن الخامس عشر مع Lorenzo Valla (1407-1457)، وهو يسعى وراء الحقيقة التاريخية ويدافع عن الدراسة اللغوية للنصوص والعودة إلى النقاء الكلاسيكي بدءًا من إيطاليا ، ليشع هذا التيار في جميع أنحاء أوروبا.

وتتميز هذه الحركة بالعودة إلى النصوص القديمة كنموذج للحياة والكتابة والفكر، ويتكون المصطلح من اللاتينية “Humanista” أي العلوم الإنسانية، والذي يرتكز على تدريس اللغات اللاتينية واليونانية والآداب والثقافات كأدوات فهم وتحليل للغوص في أغوار الفلسفات الإغريقية والفرعونية القديمة والنصوص المقدسة (الإنجيل)، ومن ثم تسليط الضوء على الثقافات والنصوص الوافدة (الشرق – الأندلس) بالاستفادة منها دون الذوبان فيها.

صدمة الاحتكاك ثم الانقسام

حدثت بعد ذلك لدى الغربيين نهضة مكنتهم من تطوير العلوم التي اقتبسوها من الشرق ومن الأندلس عن طريق الترجمة، ووصلوا بثوراتهم الشعبية إلى ترسيخ شكل جديد في إدارة الحكم، مما جعلهم يؤسسون لحضارة جديدة فيها من “الاستعلاء” والغرور ما جعلهم يسارعون باكتساح الشرق عبر حملات، أولها حملة نابليون بونابرت على مصر والشام (1798-1801م)، لتطويع الشرق الإسلامي وإلحاقه بالغرب، بقصد توفير منابع تمويل لبناء “الحضارة الغربية” وما تحتاجه من مواد أولية ومصادر للطاقة لتسلحها وتحقيق ازدهارها ورفاهها المادي الذي نشهده اليوم.

عند حدوث الصدمة (صدمة الاحتلال) لدى مختلف الولايات العثمانية، في شمال إفريقيا والحجاز والشام، انقسمت المؤسسات والنخب العربية إلى ثلاثة أقسام:

  • أولا: المؤسسات التقليدية الدينية والطرق الصوفية التي اختارت:
    • إما الانكفاء على نفسها في ذهول من قوة وعتاد الجيش “الإفرنجي” (الأزهر، الزيتونة،…)
    • او المقاومة والتصدي للمحتل بوسائل تقليدية بسيطة وتنظيمات قديمة لم تصمد امام قوة وتطور وسائل العدو (الحركات الصوفية مثل السنوسية والمهدية).
  • ثانيا: العائلات الحاكمة وأصحاب النفوذ من رجال الدين واليهود وأصحاب الثروات والجاه الذين اختاروا:
    • إما الركون إلى الحضارة الوافدة والتعامل معها وتقليدها والذوبان فيها بعد الولاء لها بدون قيد أو شرط (اليهود)
    • أو كل ذلك بشرط خروج جيوش المحتل (وهو ما التقت عليه النخب العربية التي درست بالجامعات الأوروبية)
    • او مسايرتها مع التمايز عنها والقطع معها فكريا وسلوكيا بغية تحقيق استقلال الوطن دون استقلال حضاري شامل (الحركة الوهابية بالحجاز)
  • ثالثا: تيار وسطي فيه من العلماء والمفكرين ومن التيارات والمؤسسات الشعبية والدينية التي آمنت بفكرة مقاومة وطرد المحتل أولا، ثم الاستفادة والاقتباس من الوافد حضاري الجديد (الغرب)، وذلك بامتلاك وسائل القوة والسيطرة بتعصب وانغلاق (المدرسة الشيعة) أو دون تعصب وانغلاق (المدرسة السنية)، مع الاحتفاظ بالذات واللغة والدين، وذلك ببعث وضخ الدم في شرايين المجتمع والمؤسسات العلمية من اجل التخلص من الجهل والخرافة والاستبداد، ثم تحقيق الاستقلال الكامل والتمايز الحضاري والنهوض الشامل من اجل وحدة الأمة وتحقيق رفاهها، وعلى رأس هذا التيار السيد جمال الدين الأفغاني ومن تبعه واتبعه على نهجه وفكره، مثل خير الدين التونسي ومحمد عبده وعبد الرحمان الكواكبي ومن تبعهم.

إذا نظرنا إلى هذه المدارس والتيارات المختلفة، نجد ان هناك خطا واصلا بين الأغلب منها وهي:

  • 1- المؤسسات الدينية العريقة (الأزهر، الزيتونة، القرويين)
  • 2- الحوزات الصوفية (المهدية، السنوسية)
  • 3- الوهابية بالحجاز (محمد بن عبد الوهاب)
  • 4- الشيعة في إيران (آية الله الخميني)
  • 5- الجامعة الإسلامية (جمال الدين الأفغاني)
  • 6- الحركة الإسلامية (في العالم الإسلامي)

اجتمعت هذه التيارات (برغم اختلافها في مسائل جوهرية أخرى) على خط واصل وناظم وهو الحفاظ والاحتفاظ باللغة والدين، والرجوع إلى التراث الفكري والديني (السلف) والانطلاق منه من أجل البحث عن المشترك الذي يفتح آفاق النهضة والتطور والرقي، وشذ عن هذه المدارس والتيارات اثنان، وهما:

  • 1- اليهود (الذين نشأوا في البلاد العربية قرونا)
  • 2- والنخب العربية التي تلقت تعليمها بالجامعات الغربية.

ولئن سيطر مصطلح “السلفية” على تيار الوهابية بالحجاز، وسيطر مصطلح “الدّين” على المؤسسات الدينية التقليدية (الأزهر، الزيتونة، القرويين)، وسيطر مصطلح “الولي” على المدرسة الشيعية، وسيطر مصطلح “الحركة” على تيار الجامعة الإسلامية، إلا أنها اجتمعت كلها على التشبث باللغة والرجوع إلى النصوص المقدسة (القرآن) كقاعدة للانطلاق والنهوض وإعمال العقل والاجتهاد عند البعض منها (الإسلام السياسي) والتمسك بحرفية النص عند البعض الآخر (السلفية الوهابية)، أو المزج بين الاجتهاد والتمسك بحرفية النص (عند الشيعة الاثنا عشرية).

الحركة الإسلامية

إذا انطلقنا من المفهوم الغربي للإنسانية (L’humanisme) وذلك بالعودة إلى اللغة اللاتينية واليونانية والانطلاق من الفلسفة الإغريقية لتحقيق النهضة الغربية، جاز لنا أن نستعمل نفس القياس بالرجوع إلى اللغة العربية (لغة النص) للعودة إلى النص الأول عند المسلمين (القرآن والسنة)، من أجل إثبات الذات للانطلاق في البحث والاقتباس من الحضارات الوافدة الأخرى وعلى رأسها الحضارة الغربية.

وبالبحث في التيارات الفكرية في العالم الإسلامي، نجد ان تيار الجامعة الإسلامية (الذي أصبح الحركة الإسلامية فيما بعد) جمع هذه الشروط واستوفى حظها بدون تعصب او انغلاق (عند الصوفية، والسلفية الوهابية، والشيعة الإمامية) او بدون تفسخ وانحلال (عند تيارات التغريب والتحديث بجميع اصنافها العروبية وغير العروبية).

فالحركة الإسلامية الحديثة، التي مرجعها الجامعة الإسلامية التي تأسست على يد جمال الدين الأفغاني في بداية القرن التاسع عشر، هي التي حملت وتحمل -حسب تقديري- مشروع النهضة الحقيقي، وذلك بالعودة إلى اللغة العربية والنصوص المقدسة وهما القرآن وما صح من السنة (الإنسانية الإسلامية إن صح التعبير) بشرط تحقيق شرطين اثنين وضعهما المؤسس لهذه الحركة، ألا وهما:

  • التخلص من الاستبداد والقضاء على المؤسسات الاستبدادية
  • التحرر وتحقيق الاستقلال الحضاري الشامل والكامل

من اجل تحقيق النهضة والرقي الحضاري في النهاية، وذلك بالاقتباس من الحضارات الأخرى (الأوروبية والأمريكية والصينية واليابانية والهندية وغيرها) دون تعصب، والأخذ عنها بمختلف العلوم من أجل اكتساب أسباب القوة التمكين في الأرض.

المهدي بن حميدة
في 28 فيفري 2021

المهدي بن حميدة

المهدي بن حميدة

العمر 55 سنة - متزوج وأب لثلاثة أطفال (بنتان وولد) - مقيم بسويسرا منذ 9 ماي 1992.
كاتب ومتابع للشأن السياسي والعربي والإسلامي - مدير شركة خاصة في الطباعة والتصميم والتوزيع.

أظهر كل المقالات