fbpx

ملابسات وظروف كتابة “روح التحرر في القرآن” للشيخ عبد العزيز الثعالبي

في خضم التقديم لهذا الكتاب “روح التحرر في القرآن”، أول مغالطة يمكن تصحيحها أن مؤلف الكتاب هو الشيخ عبد العزيز الثعالبي، على عكس ما يروّج في الغرب (طبعة باريس سنة 1905) من تقديم سيزار بن عطار (يهودي تونسي) في المرتبة الأولى كمؤلف للكتاب، إلى جانبه الأستاذ الهادي السبعي المترجم، وعبد العزيز الثعالبي ذُكر في المرتبة الثالثة كصحفي (Publiciste).

صدر الكتاب في طبعته الفرنسية - روح التحرر في القرآن - للشيخ عبد العزيز الثعالبي
صدر الكتاب في طبعته الفرنسية – روح التحرر في القرآن – للشيخ عبد العزيز الثعالبي

والحقيقة التي حفّت بهذا التصنيف (في ذكر المؤلفين الثلاثة) والتأليف (L’Esprit Libéral du Coran) كثيرة التشعب والتعقيد، وبالرجوع إلى السياقات الوطنية والسياسية والفكرية والحزبية في كل من فرنسا وتونس في تلك الحقبة (1904-1905)، يمكن التوصل إلى فك خيوط التشابك في الأسماء والتلاقي المتنافي بين عبد العزيز الثعالبي الزيتوني العروبي والإسلامي وبين سيزار بن عطار اليهودي الديانة والمحامي الفنكو-تونسي وبين الهادي السبعي المترجم لدى محكمة الدريبة بتونس[1].

لعله ليس من الصدفة أن يتم الالتقاء بين عبد العزيز الثعالبي وسيزار بن عطار، عندما اختار الثعالبي بن عطار محاميا له ليرافع عنه في القضية المعروفة التي حكم عليه فيها حكما بالسجن لمدّة شهرين في 23 جويلية 1904، من أجل تلفّظه بعبارات اعتُبرتْ منافية للدّين الإسلامي. والمعروف لدى الثعالبي إبان عودته من المشرق سنة 1904 اعتناقه لأفكار زعماء الإصلاح المشارقة، أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمّد عبده ورشيد رضا، والسّعي إلى التعريف بآرائهم الدّاعية إلى التحرر من البدع والخرافات والجهل للوحدة من اجل النّهوض بالأمّة الاسلامية وبناء الحياة الاجتماعية على أسس أصول الإسلام الأولى وتخليص العقيدة ممّا علق بها من خرافات وأوهام.

ولقد كانت فرنسا الاستعمارية في تلك الفترة (1902-1905) تشهد إحداث النواة الأولى لتأسيس الحزب الاشتراكي الفرنسي بزعامة Jean Jaurès[2]، بعد أن عرفت الأفكار الاشتراكية التحررية بداية الانتشار في وسط الطبقة السياسية الأوروبية، متبنية في نفس الوقت شعارات المساواة والأخوة والتضامن والتقدم والحرية الفردية والتمرد على النظم السائدة.

Me Ernest VALLÉ (1845-1920) Sénateur, ministre de la justice du 7.6.1902 au 18.1.1905

وبالنظر إلى الشخصية التي أوعز لها ناشروا الكتاب (الثعالبي، السبعي، بن عطار) تقديم كتابهم وهو السيد [3]Ernest Vallé الذي يتبنى الأفكار اليسارية والذي عُيّن رئيساً للحزب الراديكالي عام 1901، وتولى حقيبة العدل من 7 جوان 1902 إلى 18 جانفي 1905 في حكومة Émile Combes، التي دمجت بين الجمهوريين الراديكاليين واليسار الراديكالي، فإنه لا يصعب علينا فهم السياق السياسي والحزبي والاهداف الفكرية والسياسية التي أراد من خلالها الثعالبي نشر كتابه.

ولعل تجربتي الشخصية كذلك، التي خضتها في سويسرا بين 2000 و2010، في التصدي للاستبداد في تونس في عهد المخلوع بن علي، والتي تضافرت فيها جهود مجموعة من الحقوقيين والمناضلين اللاجئين السياسيين التونسيين للعمل الحقوقي، من أجل التعريف بقضية حقوق الإنسان في تونس وتجميع الأسباب الكافية من جمعيات وهيئات وقوى ضغط على نظام بن علي من اجل التخفيف على المساجين وفك القبضة الأمنية والبوليسية على الشعب التونسي والمعارضة السياسية بجميع أطيافها.

كنا نعتمد كجمعية[4]، سياسة “البيانات الحقوقية”، وذلك بذِكْر شخصيات حقوقية (تونسية وغير تونسية) معروفة من أجل التعريف بشخصيات تونسية غير معروفة من مساجين سياسيين، وكانت هذه الاستراتيجية هي من نصائح إحدى المسؤولات[5] على العمل الإنساني بهيئة الأمم المتحدة بجنيف.

ولعل السياق السياسي في تونس في الحقبة الأولى للاستعمار (1881-1904)، وفي ظل ضعف الوسائل السياسية للقوى الوطنية في التصدي للاستعمار، توخى عبد العزيز الثعالبي، وبنصائح محاميه التونسي اليهودي ذو العلاقات الواسعة مع الفرنسيين، اتخاذ أسلوب الاقتباس من “القوي” للتعريف “بالضعيف”.

فكان كتاب “روح التحرر في القرآن” هو بمثابة البيان السياسي والحقوقي الذي ألفه عبد العزيز الثعالبي باللغة العربية، وترجمه الهادي السبعي إلى الفرنسية، مع مراجعة الترجمة واختيار بعض الألفاظ الفرنسية من قبل سيزار بن عطار، ثم نُشر الكتاب في باريس سنة 1905، ولم يُنشر في تونس، بل فُقدت النسخة الأصلية باللغة العربية[6]، وهو نفس الأسلوب الذي كنا نعتمده للتعريف بالقضية التونسية لدى الهيئات الحقوقية الداعمة لحقوق الإنسان (سواء في جنيف او في باريس أو في لندن)، في شكل بيانات حقوقية باللغات الفرنسية والإنجليزية، من اجل تخفيف الضغط على المعارضة والقوى الشعبية في تونس طيلة الحقبة السوداء التي حكم فيها بن علي من 1987 إلى 2010.

في ذلك الظرف، وتماشيا مع صعود التيار اليساري الراديكالي في فرنسا، والذي تبنى قضايا التحرر في العالم، ورفع شعارات التحرر والمساواة لشعوب العالم، فإن إعجاب سيزار بن عطار بمواقف الثعالبي وأفكاره التحررية[7] هو الذي شجع هذا الأخير بأن يكتب أفكاره ويترجمها إلى الفرنسية ثم ينشرها في أوساط النخب السياسية والحزبية في فرنسا من اجل التعريف بالقضية التونسية، وتقديم الإسلام في شكل تحرري وتحريري للعقل والإنسان بصفة عامة، وخصوصا في قضايا تتعلق بالمرأة (الحجاب) التي يوكل لها اليسار الاشتراكي اهتماما بالغا.

ثم في كتاباته اللاحقة، فقد تجاوز عبد العزيز الثعالبي استراتيجية “الاقتباس” ومر إلى مرحلة “الإحراج والمقارعة”، فكان كتاب “تونس الشهيدة”، الذي طُبع بالفرنسية ونشر بباريس سنة 1920، الوثيقة التي أحرجت فرنسا والنخب السياسية والفكرية في بلد الاحتلال، وكان هذا الكتاب المنطلق الذي انبعثت معه الحركة الوطنية والحزب الحر الدستوري التونسي الذي جمع حوله القوى الوطنية لمقاومة الاستعمار.

ثم أثناء وبعد عودة الثعالبي إلى بلده تونس قادما من منفاه القسري في جويلية 1937، قدم كتاباته الأصيلة وأفكاره العلمية والعملية المتعلقة بقضايا الأمة، سواء منها القضايا السياسية (مسألة المنبوذين في الهند، الرحلة اليمنية، وثائق المؤتمر الاسلامي بالقدس) أو القضايا الفقهية والشرعية، ومن أشهر ما الفه الثعالبي، مخطوطة حول السيرة النبوية، قسمها في حياته إلى قسمين ثم طبعها ونشرها سنة 1938، وهي “حضارة العرب” (الجزء الأول من المخطوطة)، ثم “معجز محمد رسول الله” (الجزء الثاني من المخطوطة)، وفي سنة 1997 حققها الدكتور صالح الخرفي وجمعها في كتاب ضم أزيد من 800 صفحة وحمل العنوان الأصلي للمخطوطة “الرسالة المحمدية من نزول الوحي إلى وفاته صلى الله عليه وسلم“.

ولقد لخّصت هذه المخطوطة السيرة النبوية في تبويبها وشكل تأليفها، أفكار الثعالبي وبرنامجه للنهوض بالأمة بعد تحريرها من الاستعمار والتخلف، ولقد كان الثعالبي من الأوائل الذين ألّفوا في السيرة النبوية في شكلها الحديث[8]، بعد أن ظلت السيرة حتى اواخر القرن 19 وأوائل القرن الـ20 حكرا على الكتب الموروثة في السير والمغازي وفي صدارتها كتاب سيرة ابن هشام أو الموسوعات التاريخية والتي من أشهرها تاريخ الطبري.

ولقد ابتدأ الشيخ الثعالبي في كتابة المخطوطة حول السيرة النبوية أواخر أيام إقامته في بغداد محاضرا بجامعة آل البيت (1926-1930)، ولقد غادر الثعالبي بغداد أواخر شهر سبتمبر 1930 بعد أن أغلق الاستعمار البريطاني الجامعة، بمعنى أن المخطوطة كتبت بين أوت 1929 وسبتمبر 1930، ويظهر ذلك من خلال تعليق ورد بالصفحة 85 من الكتاب[9]، حول ربط رسول الله صلى الله عليه وسلم لدابته (البراق) التي أسري عليها من مكة إلى بيت المقدس “بباب المسجد اليماني” الذي قال عنه الشيخ الثعالبي أنه المعروف بحائط البراق اليوم، “والذي من أجله قامت ثورة أغسطس الماضي”، والتي يقصد بها ثورة البراق في 8 أوت 1929، بمعنى أن الكتاب ألف على الأغلب في رمضان 1348 أي فيفري 1930.

فكان الشيخ عبد العزيز الثعالبي متنقلا في ترحاله كما في أفكاره ومناهج عمله من الاقتباس من الغرب والاستناد إلى رجال الفكر والسياسة المناهضين للاستعمار، فكان كتابه “روح التحرر في القرآن” عندما كان عمره لم يبلغ الثلاثين، ثم كتابه الوثيقة والمرجع “تونس الشهيدة” سنة 1920، والذي تسبب في إحراج المستعمر الفرنسي امام رجال الفكر والسياسة، وكان هذا الكتاب سببا في نفي الثعالبي إلى القاهرة في أول الأمر، ثم اضطرته الظروف[10] إلى أن يظل متنقلا بين كافة أصقاع العالم الغربي والإسلامي، حتى عودته من منفاه في 8 جويلية 1937.

ثم بعد عودته إلى تونس اصطدم الثعالبي بواقع جديد هيمنت عليه نُخب فكرية وسياسية فرنكو-تونسية متخرجة من الجامعات الفرنسية بزعامة الحبيب بورقيبة، والتي عملت على عزل الثعالبي ومحاصرته بتوافق ضمني مع المستعمر والمقيم العام الفرنسي، مما تسبب في مرضه وشلله النصفي حتى الموت في غرة أكتوبر 1944، فمات مغبونا مقهورا مغدورا ومعزولا عن شعبه وأصدقائه وبني وطنه.

المهدي بن حميدة
لوزان في 23 فيفري 2021


[1]  (المحكمة الابتدائية) التي يتولّى النظر في قضاياها قاض عدلي وهذه المحكمة كانت تحكم مباشرة دون عرض أحكامها على الباي.

[2]  كان أحد الذين صاغوا قانون الفصل بين الكنائس والدولة سنة 1905 وفي نفس العام ، شارك في إنشاء القسم الفرنسي لأممية العمال (SFIO) ، والذي كان أحد الفاعلين الرئيسيين فيه وبالتالي وحّد الحركة الاشتراكية الفرنسية.

[3]  تصدرت النسخة الأصلية الفرنسية للكتاب مقدمة من المؤلفين الثلاثة (الثعالبي، السبعي، بن عطار) توجهوا فيها بالخطاب لوزير العدل السابق Ernest Vallé، ثم رد عليهم السيد Vallé برد جميل يشجعهم على نشر محتوى الكتاب، بعد أن أبدى لهم إعجابا بأفكارهم خلال زيارته المقتضبة لتونس في تلك الحقبة 1904.

[4] جمعية الحقيقة والعمل (Vérité Action) تأسست سنة 1997 بمدينة فريبورغ ثم انتقلت إلى مدينة جينيف، لها مساهمات وكتابات عديدة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان في تونس خلال الحقبة السوداء 1990-2010 لنظام المخلوع بن علي.

[5] السيدة Brigitte Lacroix والتي كانت تشغل رئيسة مكتب حقوق الإنسان ومناهضة التعذيب لدى الأمم المتحدة بجنيف.

[6]  تُرجم إلى اللغة الأصلية العربية بعد أن حققه كل من حمادي الساحلي ومحمد المختار السلامي سنة 1985، اعتمادا على النسخة الفرنسية التي تعتبر “النسخة الأصلية” التي وصلت إلينا.

[7] خلال مقابلاته معه بغرض الدفاع عنه في قضية “بلحسن الشاذلي” الذي تعرض له الثعالبي بالسب والقدح والتي حوكم في هذه القضية على الثعالبي بشهرين سجنا، كان سيزار بن عطار أقرب إنسان للثعالبي ومعرفة بخفايا أفكاره التحررية.

[8]  لو استثنينا كتابات المستشرقين الغربيين، وعلى رأسهم كتاب “La vie de Mahomet” للمستشرق الفرنسي Émile Dermenghem (1892-1971) الذي طبعه ونشره بباريس سنة 1929. وهو نفس الكتاب الذي أخذ عنه الشاعر والأديب المصري محمد حسين هيكل (1888- 1956)، والذي نشره بالعربية سنة 1935 في كتاب سماه “حياة محمد”.

[9]  الطبعة الأولى – دار ابن كثير – دمشق – بيروت سنة 1997

[10]  انظر مقالي “حقائق تاريخية صادمة ذكرها الشيخ عبد العزيز الثعالبي بعد خروجه من تونس، وانه اضطرته الحاجة وخذلان رفاقه في الحزب للبقاء 24 عاما في المنفى“.

المهدي بن حميدة

المهدي بن حميدة

العمر 55 سنة - متزوج وأب لثلاثة أطفال (بنتان وولد) - مقيم بسويسرا منذ 9 ماي 1992.
كاتب ومتابع للشأن السياسي والعربي والإسلامي - مدير شركة خاصة في الطباعة والتصميم والتوزيع.

أظهر كل المقالات