fbpx

تقرير لجنة الحريات والمساواة في ميزان دستور الجمهورية الثانية ( الجزء 2 )

لجنة الحريات والمساواة تونس

ثانيا ـ الخلل المنهجي في قراءة الدستور

جاء في المقدّمة المنهجية لتقرير الحريات الفردية والمساواة أنّ دستور الجمهورية الثانية سيكون معتمدا أساسيا لما سيتضمنه التقرير من البيانات والاقتراحات في شأن الحريات الفردية والمساواة بين الرجل والمرأة، وبالفعل فإنّ كل باب من أبواب التقرير يُصدّر بفصول من الدستور على أساس أنها هي المعتمد فيما سيأتي في ذلك الباب، ثم تأتي في التفاصيل كثير من الاستشهادات به والاستنادات إليه والاستنتاجات منه والاستدلالات به.

غير أنّ المتأمّل في كلّ ذلك بنظرة فاحصة يقف على كثير من الإخلالات المنهجية في قراءة الدستور قراءة يكون فيها مرجعا لما جاء في التقرير من البيانات والاقتراحات، وهي إخلالات ذات مناح متعددة في المنهجية التي بها يُقرأ الدستور باعتبار خصائصه قانونا كليا عاما محررا أساسا باللغة العربية وذأ أبعاد فلسفية وثقافية وسياسية ودينية. ونشير في هذه الورقة إلى بعض تلك الإخلالات المنهجية مع التمثيل لها من واقع ما ورد في التقرير.

1 ـ الإخلال بالمنطق اللغوي المصطلحي

بالرغم من أنّ الدستور بمقتضى طبيعته يستعمل لغة بسيطة واضحة خالية من المجاز والتعابير الإنشائية، كما يستعمل المصطلحات المتعارف عليها ويعمد أحيانا إلى شرح بعض المصطلحات حينما يخشى من تأويلها إلا أنّ التقرير في مواضع عديدة يتعسّف في إخراج بعض الألفاظ والتعابير والمصطلحات عن حقيقة مدلولاتها اللغوية والاصطلاحية ليوجّهها إلى غير المعاني المقصودة للمشرع بحسب ظاهر دلالاتها فينتهي إلى ما يريده محرّر التقرير لا إلى ما يريده مشرع الدستور، ويترتّب على هذا الخطإ في المنهج خطأ في النتيجة من أحكام وبيانات واقتراحات.

وفي التقرير من هذه الأخطاء أمثلة كثيرة نورد منها على سبيل الذكر ما جاء في ص 176 من شرح متعسّف لما تضمنه الفصل الأول من الدستور من أنّ ” تونس دولة …ذات سيادة” إذ فُسّرت سيادة الدولة بأنّ من معانيها التحرر من تعاليم الدين بحيث إذا ما أدخلت بعض تلك التعاليم في القوانين فإنّ ذلك يُعتبر إهدارا لسيادة الدولة لأنّ سلطة التشريع بيد الشعب كما في الفصلين 3 و50. ومن المعلوم أنّ مصطلح سيادة الدولة يعني أن يكون قرارها بيدها لا مفروضا عليها من خارجها كما جاء شرحه في الفقرة الأخيرة من التوطئة، فإذا ما كانت تعاليم الدين خيارا شعبيا فإنّ ذلك يندرج بالضرورة في مفهوم سيادة الدولة وإلا فإنّ كلّ اقتباس من قانون دولي أو خضوع له يُعتبر بحسب هذا الشرح المتعسّف لمفهوم السيادة انتقاصا منها وهدرا لها، وهو خلل لغوي مصطلحي ظاهر.

2 ـ الإخلال بالمنطق القانوني للدستور

إذا كان الدستور قانونا بل هو في أعلى درجات القانون فإنّ طبيعة الإلزام هي طبيعته الأساسية إيجابا أو منعا أو إباحة، فكلّ التعابير الواردة فيه تكون خاضعة لهذا المنطق مهما كانت الصيغ مباشرة في الإلزام أو غير مباشرة، ولكنّ التقرير أخلّ بهذه القاعدة المنهجية من قواعد فهم الدستور.

ومن أوضح الأمثلة في ذلك ما جاء في ص 35 من بيان تنظيري جرى الأمر عليه تطبيقا في مواضع عديدة من التقرير من أنّ ما تضمّنه الفصل الأول من الدستور “تونس دولة حرّة مستقلّة ذات سيادة الإسلام دينها والعربية لغتها والجمهورية نظامها” في سياق شرح معنى ” الإسلام دينها” إنما هو محرّر ” بقاعدة وصفية لا بقاعدة حكمية باعتبار أنّ أغلبية التونسيين من المسلمين” ، وهذا معناه أنّ إقرار الإسلام على أنّه هو دين الدولة هو إقرار وصفي لواقع الدولة التونسية باعتبار أنّ معظم سكانها من المسلمين وليس إقرارا حكميا أي ملزما بأن تكون هذه الدولة دينها الإسلام. وإذا طبّقنا هذه القاعدة (الإقرار الوصفي لا الإلزامي ) على ما جاء في نفس الفصل فإنه يصبح كونها مستقلّة وجمهورية وذات سيادة أوصافا واقعية لها لا إلزام فيها، وعلى هذا النحو يُهدر الإلزام في كلّ ما جاء في الدستور من صيغ إخبارية وهي كثيرة جدا من مثل ” الحق في الحياة مقدّس” و ” حق اللجوء السياسي مضمون”، و”الحقّ في الثقافة مضمون”، فيهدر إذن جلّ الدستور وخاصّة ما تضمنه الباب الثاني باب الحقوق والحريات، وسبب ذلك هو الإخلال بالمنطق القانوني للدستور.

3 ـ الإخلال بتوجيهات الدستور في منهجية فهمه

جاء الدستور يبيّن تصريحا أو ضمنا ببعض القواعد التي ينبغي التزامها في فهمه. ففي الفصل 146 جاء تصريح جلي بأن” تفسّر أحكام الدستور ويؤوّل بعضها البعض كوحدة منسجمة”، وكذلك فإنّ الصيغة التي صيغت بها التوطئة والمبادئ العامّة تقتضي أن تفهم الفصول التفصيلية اللاحقة في ضوء ما جاء فيهما من الأحكام العامّة المؤسّسة، ولكنّ هذه التوجيهات المنهجية الدستورية الصريحة والضمنية وقع في التقرير الإخلال بها في مواضع كثيرة جدا من بياناته واقتراحاته.

وعلى سبيل المثال فإنّ التوطئة جاء في فقرتها الثالثة أنّ هذا الدستور رُسم” تعبيرا عن تمسّك شعبنا بتعاليم الإسلام ومقاصده المتّسمة بالتفتّح والاعتدال”، كما أنّ الفصل الأول من الدستور جاء فيه أنّ ” تونس دولة ذات سيادة، الإسلام دينها …”. ومن المقتضيات المنهجية التي نصّ عليها الدستور نفسه أن تكون كلّ الفصول اللاحقة يخضع ما وردفيها لكون الإسلام هو دين الدولة بما يقتضيه ذلك من أنّ كلّ القوانين التي تصدرها الدولة تكون في نطاق ما تقتضيه تعاليم الإسلام نصّية كانت أو اجتهادية إذ القوانين المنظّمة للشأن المجتمعي هي عنصر أساسي من عناصر مفهوم الدولة، وأنّ كلّ تلك القوانين تكون أيضا مستجيبة لما يتمسّك به الشعب التونسي من تعاليم الإسلام إذ الدستور كلّه رُسم تعبيرا عن ذلك التمسّك الشعبي بتعاليم الإسلام.

ولكنّ الكثير إن لم يكن الأكثر مما ورد في التقرير لم يكن خاضعا لهذه المنهجية، إذ جاء كثير منه مخالفا لما جاء في الإسلام قطعيا، ومخالفا لما يتمسّك به الشعب من تعاليم الإسلام، والأمثلة في ذلك متواترة، منها على سبيل الذكر أنّ التسوية في الميراث (ص 227) جاءت مخالفة لآيات المواريث القطعية في ثبوتها وفي دلالتها، ومنها على سبيل الذكر أيضا أنّ إباحة العلاقات الجنسية الشاذّة وعدم تجريمها باعتبارها تندرج ضمن حرية الإنسان في حياته الخاصّة ( ص 42) مناقضة لما يتمسّك به الشعب من تعاليم الإسلام في هذا الشأن.

4 ـ الإخلال بمبدإ التكامل في فهم الدستور

لعلّ هذا المبدأ المنهجي في فهم الدستور والاستمداد منه قد ناله من الخلل في تقرير لجنة الحريات والمساواة أكثر ما ناله أيّ مبدإ آخر، فبالرغم من أنّ النصوص بصفة عامّة والنصّ الدستوري بصفة خاصّة لا تفهم معانيه إلا بالتكامل بين أجزائه، وبالرغم من أنّ الدستور نفسه قد نبّه إلى هذا المبدإ المنهجي تنبيها مباشرا وكأنّه كان يستشعر الحياد عنه في التأويل فإننا نجد التقرير يتعامل مع فصول الدستور كأنما هي جزر متفاصلة لا علاقة لبعضها ببعض، فجاءت المقترحات والأحكام فيه متناقضة إلى حدّ كبير.

وعلى سبيل المثال فقد جاء في الفصل 7 من المبادئ العامّة أنّ” الأسرة هي الخلية الأساسية للمجتمع، وعلى الدولة حمايتها” ، وهو ما يقتضي بمنهج التكامل أن تكون كلّ القوانين الصادرة عن الدولة فيما يتعلّق بالأسرة عاملة على حمايتها والحفاظ على استقرارها، ولكنّ الكثير مما جاء في التقرير من الأحكام والمقترحات جاء في الاتجاه المعاكس لحماية الأسرة، فهل في إباحة العلاقات الشاذّة والعلاقات الجنسية بين الرّشّد (ص42 من التقرير) إلا هدما للأسرة من حيث يقتضي الدستور حمايتها، وهل في إلغاء الرئاسة في الأسرة ( ص 219 من التقرير) على خلاف الناموس الاجتماعي الذي تقوم عليه كلّ المؤسّسات الجماعية في عالم الإنسان وأحيانا في عالم الحيوان إلا تمهيدا لانخرام نظام الأسرة وانفراط عقدها والحال أنّ الدستور في مبادئه العامّة جاء يلزم بحمايتها.

وعلى سبيل المثال أيضا فقد جاء في الفصل 49 من الدستور أنّ الحقوق والحريات مقيّدة بمقتضيات الأمن العامّ أو الدفاع الوطني أو الصحة العامّة أو الآداب العامّة، ولكنّ التقرير ورد فيه الكثير من الأحكام والمقترحات التي لا تلتزم بهذه المقتضيات بل هي مناقضة لها، فهل في الحرية المطلقة في الجسد بما في ذلك حرية الشذوذ والعلاقات الجنسية (ص 42 و ص 108) إلا مدخلا مؤكّدا للإخلال بالصحة العامّة كما تثبته اليوم الدراسات العلمية والإحصائية في انتقال الأمراض المعدية مثل الإيدز وغيره، وهل الحرية في هذ الشأن إلا مناقضة للآداب العامّة التي جاء الدستور يشرع لها، وهل في حرية إنتاج الأعمال الفنية بإطلاق وإلغاء الرقابة عليها إلا فتحا لباب الإخلال بالأمن العامّ حينما يعتدي العمل الفني على المشاعر المشتركة للناس؟

إنّ هذه الإخلالات المنهجية في قراءة الدستور والاستمداد منه وكثير غيرها من الإخلالات المنهجية تؤدّي لا محالة ـ وقد أدّت فعلا ـ إلى أخطاء تفصيلية كثيرة وردت في تقرير لجنة الحرية والمساواة، وسنعرض إن شاء الله طائفة من هذه الأخطاء التفصيلية في حلقة ثالثة
والله ولي التوفيق.

الد. عبد المجيد النجار
تونس في 7 جويلية 2018

اطلع على الجزء الأول من المقال

عبد المجيد النّجّار

عبد المجيد النّجّار

عبد المجيد النجار (28 مايو 1945 في بني خداش في تونس) هو أستاذ وعالم دين وسياسي تونسي. تعرض بسبب إنتمائه لحركة النهضة للنفي سنة 1989 وعاد بعد الثورة التونسية في 2011.
عبد المجيد النجار هو قيادي في حركة النهضة التونسية، وأمين عام مساعد رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ورئيس فرعه في تونس، وكذلك عضو المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث.
إنضم النجار إلى جامعة الزيتونة وتحصل سنة 1972 على الإجازة في أصول الدين، ثم سافر إلى مصر أين تحصل على الماجستير في أصول الدين كذلك من جامعة الأزهر في 1974. كذلك سنة 1981 تحصل على الدكتوراه في العقيدة والتشريع.
بين 1974 و1985 عمل عبد المجيد النجار كمعلم في السلك الإبتدائي، ثم منذ 1985 عمل كأستاذ في جامعة الزيتونة وعدة جامعات أخرى في الجزائر والإمارات وقطر والمغرب.

أظهر كل المقالات