fbpx

الحركة الاستقلالية في تونس: الجزء الأول

الحركة الاستقلالية في تونس

عبد العزيز الثعالبي – جريدة الجامعة العربية – القدس – 23 أكتوبر 1934

ليست البلاد التونسية من الممالك الذاتية التي أضاعت استقلالها واندمجت في غيرها من الأمم السائدة أو الدول الفاتحة المتغلبة، وإنما هي من الممالك التي تمتعت بالاستقلال من عهد ضحى الإسلام وحافظت عليه محافظة شديدة خلال هذه القرون الطوال، فقد كانت هي وغيرها من بلاد إفريقيا الشمالية من العهد الأول للفتح الإسلامي ولاية متحدة تابعة للخلافة الأموية في دمشق ولم تخضع لهذا النظام أكثر من خمسين سنة.

وكانت عاصمة هذه الولايات مدينة القيروان، وكان السواس العرب منذ بداية الفتح -سواء أكانوا في عهد الصحابة أو في العهد الأموي الأول- تغلب على نفوسهم أهواء السياسة القومية، بل كان ديدنهم تنفيذ فكرة الإسلام القائمة على أساس المساواة التامة بين العناصر والأجناس عملا بالحديث الشريف “لا فضل لعجمي على عربي إلا بالتقوى”، وبالآية الشريفة (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ – الحجرات 13)، ولكن يظهر أن هذه السياسة حدث لها ردّ فعل بدأ خطره في عهد خلافة الوليد بن عبد الملك، فقد كثر عدد الداخلين في الإسلام وقلّت موارد الجزية في جميع الممالك المفتوحة في الشرق والغرب.

وأخذ مُسلمة الأعاجم يتطلعون إلى تسنم المناصب الرفيعة في الدولة يزاحمون فيها العرب، فخاف الحجّاج[1] من ذلك خوفا شديدا، وله العذر، لأن مصير سياسة التساهل في تقليد مناصب الدولة لغير العرب وعدم تمييزهم على غيرهم في بعض الإتاوات، خروج الدولة من أيديهم وانتقالها إلى غيرهم كما حدث بالفعل في عهد الدولة العباسية، فكان سببا مهم في انقراض الدولة وزوال سيادة العرب، فأوعز يزيد بن الوليد إلى عماله في جميع الأقطار بأن يسلكوا سياسة قومية تجعل العرب ممتازين على غيرهم في الوظائف والعطاء والخَراج اتباعا للخطة الرشيدة التي وضعها الحجاج في سياسته للمالك التي افتتحها في المشرق.

نزعات الاستقلال منذ الفتح الإسلامي الأول

وكان شمال إفريقية من الممالك التي بقيت منذ استقر فيها الفتح الإسلامي خارجة عن اتباع هذه الخطة، ولما استقال واليها الأمير إسماعيل بن أبي المهاجر[2] سنة 105 هـ وصار إلى المشرق عين عليها يزيد بن عبد الملك، يزيد بن محمد وزير الحجّاج فافتتح عهد ولايته بتنفيذ السياسة العنصريّة الجديدة، فخمّس أعشار البربر (بنسبة 1 من 5 بعد أن كانت 1 من 10) وخفّض من عطائهم وقدم عليهم العرب في كل شيء عدا الحرب، فكان يقدم فيها جنود البربر مما اوغر صدورهم وأثار حفائظهم، فثاروا بعاملهم يزيد فقتلوه، وولّوا مكانه قائد الجنود محمد بن يزيد ولم تطل عليهم ولايته حتى أوفد عليهم أميرُ المؤمنين هشام بن عبد الملك، بَشر بن صفوان، وكان عربيا صميما في عصبيّته فنهج في سياسته على الشدّة مما الّب عليه البربر.

وكان ثوار العرب من الخوارج يواصلون الناقمين من البربر ويدعونهم إلى الثورة على الدولة ونقض حكم الأمويين ولكن البربر كانوا أعقل من أن يورطوا بلادهم في ثورة مبهمة لا يدركون عواقبها وقد أُشربت قلوبهم حب الإسلام فتريثوا قليلا، ولكنهم عادوا فقتلوا بَشْرا، فولى هشام مكانه عبيدة بن عبد الرحمن السُّلمي وكان بجنح لإنصاف البربر فنحاه هشام عن الولاية وعيّن مكانه عبيد الله ابن الحبحاب[3] سنة 114 هـ، وكان شديدا في تنفيذ السياسة العربية الجديدة، وكان أدهى من ولي شمال إفريقية للمروانيين، فلم يترك للبربر فرصة يشتغلون فيها بالثورة بل حوّل نشاطهم لفتح البلاد القاصية في المغرب والسودان والأندلس ومنازلة الشطوط الإيطالية.

أول ثورة في الإسلام في إفريقية سنة 122 هـ

وفي أيام ولايته بعث البربر وفدا من كبار زعمائهم إلى دمشق يرفع ظلامتهم إلى أمير المؤمنين وكان الوفد ممثلا من جميع إفريقية يتقلد زعامته ثلاثة من نوابغهم ميسرة بن مدغري (الملقب بالحقير) ومغرور بن طالوت وصالح البرغوطي، فأقام الوفد في دمشق دون أن يتمكن من لقاء أمير المؤمنين[4] حتى إذا يئسوا منه تقدموا إلى الأبرش الكلبي وزير هشام بن عبد الملك وعرضوا عليه أسماءهم ثم انقلبوا على أعقابهم إلى المغرب ولم يلبثوا إلا قليلا حتى رفعوا علم الثورة سنة 122 هـ، ونشبت فتنتها في المغرب وقد نسجوها على منوال الخوارج: منوال الصفرية والنكار، وتولى زعامتها ابن مدغري السالف الذكر، ثاروا على عامل الدولة فعزله هشام وولّى مكانه كلثوم بن عياض ووجه معه جيشا لجبا عدته ثمانون ألف مقاتل، فلقيه البربر على وادي شلف واشترك الفريقان في معارك هائلة يثبت المؤرخون أنه فني فيها من أبطال العرب والبربر خلق كثير وقُتل فيها كلثوم بن عياض، فأقام الخليفة مكانه حنظلة بن صفوان الكلبي فالتقى بهم على بلد الأصنام في الجزائر، واشتدت الحرب بينهم فهلك فيهم قوم كثير وانتصر حنظلة في هذه الواقعة.

دولة الفهريين[5] (122-140 هـ)

وقد تمخضت هذه الثورة على ظهور فكرة الاستقلال بالحكم في شمال إفريقية والانفصال عن الخلافة الأموية، فاتفقت كلمة العرب والبربر على بيعة الأمير عبد الرحمن بن حبيب بن عقبة الفهري[*] حفيد الصحابي الشهيد عقبة بن نافع الفهري الفاتح الأول لشمال إفريقية سنة 27 هـ. فخاف حنظلة بن صفوان على نفسه فرحل إلى المشرق، فدخل الأمير عبد الرحمن القيروان بعد أن انقاد له شمال إفريقية والأندلس وكان ذا هيبة عظيمة.

[*]  ذكر ابن الدباغ في معالم الإيمان (ج 1 ص 167) أن الأمير عبد الرحمن بن حبيب بن عقبة ابن نافع ناط قضاء القيروان سنة 132 بجميل بن كريب المعافري، فكان هذا القاضي عادلا منصفا لا تأخذه في احكامه لومة لائم، فبينما هو جالس ذات يوم للخصوم بجامع القيروان إذ حضر لديه تابع لامرأة الأمير عبد الرحمن بن حبيب وعرض عليه نيابة على مولاته قضية في زواجها وهي انها كانت اشترطت على الأمير عند البناء بها انه مهما تسرّى عليها بغيرها كان امرها بيدها، وبعد ان أثبت التابع وكالته عند القاضي أخذ استدعاء للأمير فامتثل عبد الرحمن لذلك وشخص بين يدي القاضي مع التابع كسائر الخصوم، ولما سأله على القضية أقر بالتسري واعترف بالشرط الواقع بينه وبين زوجته، فأشهد عليه القاضي عندئذ من كان حاضرا من الشهود ثم التفت للتابع وأبلغه أن امر الأميرة بيدها إن شاءت أقامت وإن شاءت طلقت نفسها، فرفع الأمير عبد الرحمن يده إلى السماء وقال: “الحمد لله الذي أراني قاضيا يحكم فيّ بالحق”. غير أن الشيخ ابن الدباغ الناقل للحكاية لم يعلمنا فيما رواه إذا كانت زوجته الأميرة خيرت البقاء او الطلاق. وذكر حسن حسني عبد الوهاب في كتاب شهيرات التونسيات تعليقا على هذه الرواية انه لم تزل العادة جارية من ذلك العهد إلى الآن بالقيروان بتبرع الزوج لزوجته عند انعقاد النكاح في كونه راضيا لها بعدم التزوج عليها بامرأة ثانية، وقد ينص عادة في نفس رسم الصداق بان الزوجة لها الحق في تطليق نفسها متى تزوج عليها بغيرها، وهو ما يُعرف في القطر التونسي بالطريقة القيروانية في الزواج، ولذا قلما وُجد في القيروان من تعددت أزواجه.

ولما وُلي مروان بن محمد الخلافة[6] بعث إليه بعهده على ما بيده من الولايات فلم يجبه وبدأ المير عبد الرحمن يوحد نظام الحكم في البلاد ويشرك فيه العرب مع البربر، ولكن البربر كانوا غير جادين في اتفاقهم مع العرب، بل صالحوهم على دَخَل[7]، واستمر هذا ارتفاق ظاهرا بين العنصرين إلى أن قامت الدولة العباسية في المشرق سنة 131 هـ، فكتب الأمير عبد الرحمن بالبيعة إلى عبد الله أبي جعفر المنصور، فلما ورد الجواب بالإقرار والتقليد أرسل إليه الخليفة يستهديه بعض الجواري من البربر فأنكر الأمير عبد الرحمن أن يطلب إليه الخليفة مثل هذا الطلب المستن وأمر بعقد مجلس يعرض فيه مطالب أمير المؤمنين وما كاد يتلوه عليهم حتى وقع الإجماع على التحلل من عقدة البيعة وإعلان الاستقلال عن الدولة العباسية.

وأعقب هذا الانفصال ثورات متتابعة أودت بحياة الأمير عبد الرحمن سنة 137 هـ، وتغلب من بعده أخوة إلياس بن حبيب الفهري سنة 138 هـ، ثم ولي بعده حبيب بن عبد الرحمن واستمر إلى أن قتل سنة 140 هـ في الثورة البربرية وبموته انقرضت دولة الأمراء الفهريين التي قامت لمناهضة السياسة الجنسية[8] والتحلل من بيعة الأمويين والعباسيين.

حكم الإباضيين 140-144 هـ

تغلّب البربر من بعده على إفريقية وأمّروا عليهم عبد الملك بن أبي الجعد الذي تعقّب العرب بالقتل وأنزل العذاب بأهل القيروان حتى كاد يفنيهم جميعا، فخرج عليه عبد الأعلى بن السمح المعافري[9]، أحد رجالات العرب وكان يرى رأي الإباضية وهو ينكر فعل البربر وشايعه في هذا الخروج برابرة طرابلس الإباضيون، فزحف بهم على القيروان فملكها سنة 141 هـ، فعظم شأنه وتسامع به العرب فأقبلوا لنجدته وطار صيته إلى بغداد، ثم كاتب الخليفة المنصور يستحثه على إرسال الجنود فبعث المنصور إلى محمد ابن الأشعث الخزاعي والي مصر يأمره بإنجاد إفريقية ضد البربر فوجّه الأشعث أبا الأحوص العجلي مع جيش ثم لحق بع في 40 ألفا من الجند فليقيهم أبو الخطاب على طرابلس فاقتتلوا قتالا شديدا وكانت الهزيمة في جانبه وقُتل أبو الخطاب سنة 144 هـ.

الدولة الأغلبية 148 – 296 هـ

وفي سنة 148 هـ أرسل المنصور الأغلب بن سالم التميمي بعهده على إفريقية وهو جد الملوك من بني الأغلب وكان من ذوي الشجاعة والرأي فأقام بالقيروان واستقام له الأمر في إفريقية ومازال يناهض البربر إلى أن قتل سنة 150 هـ فولى بعده عمر بن حفص أخا المهلب بن أبي صفرة، ومازالت الولاية بين المهالبة يتداولونها إلى أن قتل الفضل بن روح بن حاتم في خلافة الرشيد سنة 178 هـ فانقرضت إمارتهم بموته، فولى الرشيد مكانه هرثمة بن عيسى[10] ولما أدرك ما بالمغرب من الاضطرابات استعفاه عن الولاية فأعفاه وقلدها أخاه من الرضاعة محمد بن مقاتل العكي وكان أحمق غير موفق فثارت عليه البلاد بأسرها (العرب والبربر) واجتمعت كلمتهم على بيعة إبراهيم بن الأغلب وأنهوا بذلك إلى الرشيد فوافاه التقليد سنة 184 هـ.

ولم تجتمع كلمة العرب والبربر من عهد ظهور ثورة الخوارج اجتماعها على عهد هذه الدولة، فقد عرفت كيف تستل السخيمة العنصرية من الصدور وتوحد القلوب على الدين وتحول الجهود الضائعة إلى الفتح والاستيلاء على جنوب أوروبا، خصوصا بعد أن جلس على عرش هذه الدولة الفتية الأمير زيادة الله الأكبر، فانقطعت بين العنصرين بواعث الشغب والفتنة وانتقلت قوة الشغب وجهوده إلى العمل والانتشار في الخارج ونشر ألام السيادة على أوروبا، فكان الفوز بعد الفوز في الحروب الكثيرة التي دارت معاركها بين الأساطيل الإفريقية والبيزنطية في البحر المتوسط والجيوش في إيطاليا وفرنسا وسويسرا وألمانيا من أهم الأسباب في انقطاع ما استفحل بين العرب والبربر من شقاق وزوال فتن الشعبوية الخبيثة وشيوع الروح الإسلامي في البلاد.

وكان من أثر انتصاراتها في الخارج رغم قصر المدة التي قضاها في الحكم أجمل صحيفة يزدان بها التاريخ الإسلامي، فإنها نشرت أعلام سيادتها على قسم عظيم من إيطاليا وصقلية ونابولي وسردينيا وجنوا والتيرول من فرنسا مرسيليا والبروفانس وشواطئ الرون إلى كولونيا، ومن التيرول إلى سويسرا ولو طال عهدها لخفقت أعلامها على جميع عواصم أوروبا، ولكن سوء طالع الإسلام أبى عليها أن تستمر في هذا الجهد التمدني العظيم الذي كانت تنبر به تلك الأقطار المظلمة.

دولة الشيعة الفاطمية 296-361 هـ

فقد نفذت إليها من بلاد فارس الدعاية الباطنية الهدامة وهي منهمكة في حروب الفتح بدخول أبي عبد الله الصوفاني واتصاله بقبائل كتامة الضاربة بجرانها في المغرب الأوسط ودعوتهم إلى إحياء النعرة البربرية، ومازال بهم يحرضهم بواسطة زعيمهم الأكبر أبي زكي تمام بين معارك الكتامي سيد كتامة، حتى ألبهم على الدولة وسار بهم إلى القيروان ولم يكن بها إلا حاميات قليلة، وكانت جيوشها كلها في أوروبا فأدال منها وشرّد آخر ملوكها زيادة الله الأصغر إلى الرملة من بلاد فلسطين، وأنشأ على أنقاضها الدولة العبيدية الإسماعيلية سنة 296 هـ.

وكانت عصبية هذه الدولة قائمة على النعرة البربرية وتقويض الروح العربي، فمكن البرابرة من الوظائف وقيادة الجند ووكل لإليهم تدبير شؤون الدولة وكان من أثر ذلك حدوث مذبحة القيروان المشهورة إثر إعلان البربر للنحلة الإسماعيلية وإظهار ما استتر من عقائد الباطنية الإباحية، وقد بلغ عدد القتلى من البربر في هذه الواقعة على ما يرويه المؤرخون عشرون ألفا نسمة، لذلك أضمر عبيد الله المهدي أن يهجر القيروان ويتخذ لنفسه عاصمة أخرى يتحصن بها مع جنوده، فبنى على ساحل البحر مدينة المهدية سنة 303 ثم انتقل إليها فكانت دار مُلك العبيديين إلى أن تم لهم الاستيلاء على مصر وابتنوا مدينة القاهرة وجعلوها دارا لمُلكهم على عهد المعز لدين الله[11] ولقّبوا فيها أنفسهم بالفاطميين[12].

الدولة الصنهاجية 361-543 هـ

ولما انتقل حكم الفاطميين إلى مصر أسندوا إمارة شمال إفريقية إلى أمير من امراء البرابرة الصنهاجيين سنة 361 هـ، وهو الأمير يوسف بن بلكين بن زيري بن مناد الصنهاجي، وبتسلم الأمير الصنهاجي عرش الإمارة في إفريقية أمكن للبربر أن يستقلوا بحكم بلادهم بعد أن فقدوه نهائيا في عهد تأسيس الحكم الجمهوري في قرطاجنة على أيدي التجار الفينيقيين وسخّروا البربر لخدمة أغراضهم ومقاصدهم السياسية والتجارية، غير أن البلاد لم تشعر بالفرق بين العهدين: عهد الحكم العربي وعهد الحكم البربري، وذلك لأن البربر قد اصطبغوا بالصبغة الإسلامية وطابعها عربي صرف، وهجروا لغتهم وآدابهم وكل ما لهم من المميزات والتقاليد وصاروا بفضل تأثير الإسلام عربا لحما ودما، ولم تقل جهودهم التي بذلوها في خدمة العلم والحضارة عن الجهود الأخرى التي قامت بها أكبر الدول العربية في المشرق.

فقد نشطوا في نشر التعليم واصطنعوا العلماء وشجعوا الفنون الجميلة وكثرت في عهدهم الزخارف والنقوش والصناعات المختلفة، وأزهى عصورهم عصر “أم ملال”[13] التي تقلدت الحكم وصية على ابن أخيها القاصر المعز ابن باديس وأول أمراء الصنهاجيين الذين نزعوا نزعة الاستقلال بالحكم في البلاد والانفصال عن الدولة العبيدية الأمير المنصور بن يوسف بن بلكين، فإنه بويع بالإمارة بعد وفاة أبيه سنة 386 هـ، وأوعز إليه رجال الدولة أن يكتب إلى الخلفاء الفاطميين في طلب التقليد، قال لوزرائه: “وهل لمثلي وأنا من صميم البلاد أن يتولى بكتاب أو يُعزل بكتاب ويلتمس السلطان لبلاده من الغرباء”.

ومن ذلك العهد جد الأمراء الصنهاجيون في تثبيت استقلالهم ونبذ تقاليد الفاطميين ومخالفة أساليبهم التي كانت متبعة في السياسة والأحكام والتعليم، ولما جلس المعر بن باديس على العرش أعلن الاستقلال التام وقطع العلاقات التي كانت تربط مملكته بالخلافة الفاطمية.

وكان العبيديون “الفاطميون” في مصر قانعين بانحصار سيادتهم في إفريقية في الخطبة باسمهم على المنابر وضرب العملة باسم خلفائهم واتصال حرية الدعوة بنشر عقائدهم ومذاهبهم، فلما قطع المعز بن باديس كل ذلك، اتخذ السُّنّةَ مذهبا للدولة وقلّد علماء المالكية الفتيا والأحكام والتدريس في جميع المعاهد العلمية والدينية، وأمر بأن تكون الخطبة في المساجد للخلفاء من بني العباس.

زحف بني هلال على إفريقية سنة 449 هـ

كبُر ذلك على المستنصر الفاطمي ووزيره الحسن البازوري فرموها بمصيبة دهماء فأجازوا لقبائل الهلاليين وزغبة[14] الدخول إلى إفريقية بعد أن كانوا ممنوعين عنها، وتُعرف هذه الإجازة في كتب التاريخ “بالسرحة الهلالية” فكان دخولهم إليها سنة 449 هـ وباء فتاكا أخذ يكتسح كل ما وجده في طريقه من معالم الحضارة والعمران وكان دأبهم القتل والنهب والهدم والتخريب، وكان ذلك من أهم الأسباب في تقليص حضارة شمال إفريقية وانحطاط شأنها بين الممالك المجاورة، حتى طمع في الاستيلاء عليها النورمانديون[15] بعد أن أدالوا الحكم من المسلمين في الإمارات العربية المنقطعة التي قامت في أقطار جنوب أوروبا.

هذا نموذج مصغر من تاريخ الباطنيين الفظيع الذي تركوه لنا في شمال إفريقية من عهد التجائهم إليها إلى العهد الذي خربوها فيه وهو لطخة عار بين صحائف التاريخ الإسلامي لا يذكر إلا بين المآسي لإثارة الأحزان.

المصدر: مقالة بعنوان ” الحركة الاستقلالية في تونس” لزعيم تونس الكبير الشيخ عبد العزيز الثعالبي، صدرت بجريدة “الوادي” المصرية ونقلتها في ثلاثة أجزاء جريدة “الجامعة العربية” الصادرة بالقدس، وذلك في 23 أكتوبر  و25 أكتوبر و 26 أكتوبر 1934

الحركة الاستقلالية في تونس: الجزء الثاني


[1] الحجاج بن يوسف الثقفي (40-95 هـ)، والي في العهد الأموي، أمره عبد الملك بن مروان (26 هـ – 86 هـ) بقِتالِ عبد الله بن الزبير (1 هـ – 73 هـ)، فزحف إلى الحجاز بجيشٍ كبيرٍ وقتل عبد الله وفرَّق جموعه، فولاَّه عبدُ الملك مكة والمدينة والطائف، ثم أضاف إليه العراق والثورة قائمة فيها، فانصرف إلى الكوفة فقمع الثورة وثبتت له الإمارة عشرين سنة. اشتهر باستبداده وبطشه حيث لُقّب “بالسفّاح”.

[2]  أبو عبد الحميد إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر (61 هـ – 132 هـ) تابعي وفقيه، وأحد رواة الحديث النبوي، ووالي إفريقية في خلافة عمر بن عبد العزيز.

[3]  عبيد الله بن الحبحاب السلولي من أبرز اعماله تجديد بناء جامع الزيتونة.

[4]  فصل الطبري في كتابه “تاريخ الرسل والملوك” أحداث هذه المحاولة للصلح.

[5] أحفاد الصحابي الشهيد عقبة بن نافع الفهري الفاتح الأول لشمال إفريقية سنة 27 هـ.

[6] أبو عبد الملك مروان الثاني بن محمد (72 هـ- 13 ذو الحجة 132هـ)، المعروف أيضاً بمروان الحمار وهو آخر خلفاء بني أمية في دمشق، عُرِف بشجاعته وصلابته وحبّه للسّفر وقد وصفه الباحثون وصفاً دقيقاً فتحدّثوا عن لحيته البيضاء وهامته الضّخمة.

[7]  الدَّخَلُ : الفساد

[8]  يقصد الثعالبي، التي تقوم على الجنسية العربية.

[9]  أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافري الحميري اليمني، زعيم الإباضية في إفريقية، امتدَّ سلطان دولته شرقًا إلى برقة وغربًا إلى القيروان وجنوبًا إلى فزَّان، واستمرَّ هذا الحكم أربع سنوات حتى توفي في معركة تاورغا سنة 144 هـ..

[10]  هو هرثمة بن أعين في كتب التاريخ.

[11]  معد المعز لدين الله، المعز أبو تميم معدّ بن منصور (المهدية حوالي 320 – القاهرة 364) هو رابع الخلفاء الفاطميين في إفريقية وأول الخلفاء الفاطميين في مصر. والإمام الرابع عشر من أئمة الإسماعيلية حكم من 342 حتى 364. وقد أرسل أكفأ قادة جيشه وهو جوهر الصقلي للاستيلاء على مصر من العباسيين فدخلها وأسس مدينة القاهرة بالقرب من الفسطاط، والتي تعتبر أول عاصمة للعرب في مصر.

[12] نسبة إلى فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرجعون نسبهم -بحسب زعمهم- إلى مُحمَّد بن إسماعيل بن جعفر الصَّادق، فهُم بهذا إسماعيليون عَلَويّون ومن سُلالة الرسول مُحمَّد عبر ابنته فاطمة الزهراء ورابع الخُلفاء الرَّاشدين الإمام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.

[13] أم ملال واسمها السيدة فاطمة بنت المنصور بن يوسف الصنهاجي، وُلدت بقصر المنصورية الذي ابتناه أبوها بصبرة على ميل من القيروان، نشأت ودرجت في كنف والدها صاحب إفريقية وأخيها باديس وكان يعلم تفوقها وعقلها وسعة رأيها، فأخلصها حبه وأشركها في تدبير أمره وانتصح برأيها في سياسة الدولة وهو هو في تعاليه وبُعد غوره، وقد ساعدها في ذلك ابتلاء أخيها باديس بالقائمين عليه واشتغاله بقمعهم ومطاردتهم في كل صقع يظهرون فيه، إذ كانت أيام دولته مملوءة بالثورات والفتن الداخلية لا يقر له قرار دون إصماد الجيوش في وجوه المحاربين، فاشتغل بالحروب واوكل لأخته الإشراف على أعمال الدولة وسياسة الرعية. بعد وفاة أخيها باديس سنة 406 هـ تسنم المعز (وعمره تسع سنوات) ذروة الإمارة بإجماع أكابر صنهاجة ومشيخة القطر وامراء الجند والفقهاء والعلماء وأقاموا عمته وصيّة عليه إلى أن يبلغ سن الرشد، وتولت أم ملال الأمور وتصرفت في شؤون الحكم بحسن تدبير ورأي ثاقب، قال المؤرخ حسن حسني عبد الوهاب أنه لم يقص علينا التاريخ ان امرأة مسلمة حكمت إفريقية على نحو ما حكمت به هذه الأميرة الفاضلة، حتى ماتت في رجب سنة 414 هـ وقد بلغ المعز سن الرشد وذاع صيته وفاقت شهرته جميع الأوطان وذلك بفضل أم ملال وما نال على يدها من رسوخ الذهن وتوقد العزم وبعد النظر في الأمور كلها، ورثاها شعراء البلاط وكانوا اكثر من مئة شاعر، ودفنت في المهدية ثم نقلت إلى مقبرة أمراء صنهاجة في المنستير، المعروفة بمقبرة السيدة، نسبة إليها.

[14] بنو هلال قبيلة عربية هوازنية قيسية مضرية عدنانية، أصلهم يعود إلى وسط نجد حيث كانوا يعيشون في بادئ الأمر، هاجرت القبيلة من الجزيرة العربية إلى الشام ثم صعيد مصر ومنه انتقلت إلى باقي شمال أفريقيا عبر ما يعرف بزحف بني هلال. وزغبة قبيلة كبيرة من فروع قبائل بني هلال.

[15] النورمان أو النورمانديون Normans أصل الكلمة بالفرنسية أو الاسكندنافية وتعني حرفيًا “رجال الشمال” وهو شعب من أقدم الشعوب التي استوطنت الأراضي الاسكندناڤية، وفي السابق كانت كلمة نورمان تستخدم لوصف الفايكنج Vikings.


نقلت المقالة كما هي مع زيادة العناوين الفرعية (ليست موجودة بالمقال الأصلي) وأردفت التعريفات في الحواشي، التي رأيت من المفيد إضافتها لمزيد إطلاع القارئ بما ينسجم مع المقال.
المهدي بن حميدة
لوزان، في 5 مارس 2021

المهدي بن حميدة

المهدي بن حميدة

العمر 55 سنة - متزوج وأب لثلاثة أطفال (بنتان وولد) - مقيم بسويسرا منذ 9 ماي 1992.
كاتب ومتابع للشأن السياسي والعربي والإسلامي - مدير شركة خاصة في الطباعة والتصميم والتوزيع.

أظهر كل المقالات