fbpx

نحو إعادة تشكيل العقل المسلم في مسألة الحاكمية

طه جابر العلواني

يتضح مما سبق أن ساد في شرائع منَ قبلنا أن “الحاكمية”، لو أردنا صياغتها في معادلة حداثية لكانت على النحو الآتي: الله ← الرسول (موسى)، أو النبي الخليفة (داود)، أو النبي الملك (طالوت) ← الأمُة.

تشير هذه التراتبية إلى انعدام دور الأمُة؛ سواء في العلاقة بين الله والنبي (وهذا مفهوم في كل حالات النبوة)، أو التشريع وإعماله في الواقع المعيش (فالنبي يمارس دور الوسيط المزدوج بين الله وعباده، وبين التشريع وإنزاله على أرض الواقع، حيث لا محل للاجتهاد). بينما هي -الحاكمية- في حالة الرسالة الخاتمة، وبعد صعود روح النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى، على النحو الآتي: الكتاب (القرآن الكريم) ← الحاكم ← الأمُة. وهنا، حيث لا وساطة معصومة بين الكتاب والحاكم (على الأقل في التصور السُّني) أو بين الحكام والمحكومين، نجد فراغين يتحتم على الأمُة أن تملأهما.

  1. دور الأمُة في العلاقة بين الكتاب والحاكم

يتحتم، قبل الشروع في تفصيل هذا الجانب، تأكيد حقيقة أنه لا أحد -الآن- معصوم على هذا الكوكب، وهذا يستغرق بالضرورة المسلمين جميعا. ويبُنى على ذلك أنه لا توجد شخصية طبيعية أو اعتبارية تحتكر التصور الحقيقي المُطلق للرسالة الخاتمة. وبه، فإن:

أ- القرآن الكريم مشاع بين المسلمين جميعا، فليس لفرقة منهم أن تدعي الفهم الصحيح الوحيد له، ولا أن تجبر باقي الفرق على اعتناق مذهب عقدي أو فقهي، بأيّ شكل من الأشكال؛ إذ القرآن نصٌّ معصوم محفوظ، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- معصوم أيضا، ولكن البشر حين يتعاملون مع النص ليسوا بمعصومين؛ سواء أكانوا من أبناء القرون الثلاثة الأولى أم من غيرها، وتتحكم عوامل عديدة في فهمهم النص. لذا، فإن عصمة النص أو الخطاب لا تنسحب على فهم المتعاملين معه، أو على اجتهاداتهم وآرائهم؛ تفسيرا، أو تأويلا، أو استنباطا، أو فقها، بل يبقى فهمهم بشريا محدودا، تعتريه عوامل النقص البشري.

ب- القرآن الكريم مشاع بين علماء المسلمين الذين يمتلكون أدوات الاستنباط، أياّ كانت فرقهم، وليس لعالم أو مؤسسة علمية ادعّاء احتكار الحقيقة، خاصةً أن أحد أهداف القرآن الكريم الأساسية هي مشاعية الوعي والمعرفة به، ولذلك يُسِّر للذكر ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ ]القمر: 22 وتُعبِّد بتلاوته خمس مرات في اليوم، فلا يوجد فيه إكليريوس أو كهنة يعرفون -بسلطة خاصة أو وسيطة- ما لا ينبغي أن تعرفه العامة. ونستثمر هذه المناسبة لتوجيه النقد إلى فكرة “الإجماع”، ولكن من مدخل جديد غير ذلك الذي سلكه أبو العباس ابن تيمية في المنهاج، وأبو محمد ابن حزم في الإحكام؛ إذ نرى أن مفهوم الإجماع يستبطن روحاً علمانيةً، وهذه الأخيرة -بوجه من الوجوه- يكون فيها الناس مرجعية أنفسهم، فلا يرجعون إلى شيء متجاوز (وحي)، وهذا تحديداً ما نتج من تبني الأمُة المفهوم موضع النظر، فصار الحق يعرف بالرجال لا العكس، بالرغم من أن القرآن الكريم )الذي حاول بعضهم تأويل بعض آياته بتعسف وتكلف لشرعنة فكرة الإجماع[1]) يؤكّد أن الحق حق في ذاته لا باجتماع الناس عليه، وأن هؤلاء -دائماً- ولو حرصت، ليسوا بمؤمنين، وما يؤمن أكثرهم بالله إ لا وهم مشركون!ّ

وهنا يثور سؤال: هل يُبشِّر كاتب هذا السطور بالنسبية، أو السيلان الشامل، أو ما بعد الحداثية؟ والجواب: لا، إننا ندعو إلى مركزية القرآن الكريم، وما بعد الحداثة لا تؤمن أصلاً بالمركز، وإننا نؤمن بأن القرآن هو كتاب الله الذي يضم بين طياته الحقيقة المطلقة. والسيولة الشاملة تقول إنه لا حقيقة مطلقة، وما بعد الحداثة ترى انهيار كل السرديات الكبرى التي تحاول تفسير العالم، ونحن نرى أن كتاب الله محفوظ لم يُفرِّط في شيء، وأنه قادر على التفسير والتغيير والاستجابة للتحديات.

وبهذا، فنحن نُنظِّر لـ”ما بعد التراث”، ونبادر بالقول إن ما بعدية التراث لا تعني “ضد التراث” (كما هو الحال في ما بعد الحداثة: Post-modernism، التي تعني أيضا: End of or Anti – modernism). ومن ثم، فدعوتنا قائمة على مركزية القرآن (وهو -قطعا- في مصطلحنا ليس متضمنا في التراث) بحيث ننظر إلى التراث به لا العكس، وبحيث يكون كل تراث أدنى منه لا يقف معه على مسافة واحدة بحال. وما بعد التراث يعني أيضا النظر إلى ما قبل التراث بعين المراجعة والنقد والتفنيد باستصحاب معيارية القرآن.

ت. إن أي نظام سياسي لا يجوز أن يتضمن مؤسسة وسيطة لتفسير القرآن الكريم، أو تبيان أحكامه؛ سواء أكانت هذه المؤسسة قضائية تكنوقراطية، أم مؤسسة دينية فقهية، تمتلك سلُطة التفسير والتأويل في المسائل المتعلقة بالشريعة.

  1. صيغة العلاقة بين الحاكم والمحكومين

أ- الخلافة الإسلامية:

لم يكن الدائم في التاريخ الإسلامي وجود خليفة يقود دولة تنينية (هوبز) مركزية مصمتة، وإنما ضَمَّت الخلافة -في ظلّها- تضاريس عدّة، وهو ما حدا بعلماء السياسية الشرعية -نورّ الله أضرحتهم- أن يفُرقِّوا بين إمارات الاستكفاء وإمارات الاستيلاء؛ فالأوُلى يُعيّن فيها الخليفة مَن يراه أهلا لذلك، والثانية يقُرِ فيها الخليفة فاتحها ولا يعُينِّه. وقد جعلهم ذلك يناقشون مسألة تزاحم الخلفاء، أي جواز أم عدم جواز أن يكون للمسلمين أكثر من خليفة، وتباينت آراؤهم في ذلك؛ فمنهم قائل بعدم الجواز لما فيه مخالفة لقوله تعالى: “واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا”، وقائل بجواز ذلك؛ إذ أفضل مَن فهم كتاب الله هم صحابة رسوله -صلى الله عليه وسلم- العدول. وأهل المدينة في سقيفة بني ساعدة قالوا لأهل مكة: “مناّ أمير ومنكم أمير”، وهو ما يفيد الإباحة.

وفي الفقه السياسي الإسلامي، تكليفيا،ً تقع السلطة في حكم الواجب. وبقراءة التصورات الفقهية الإسلامية للسلطة نجدها تتقارب مع التصورات التي تَعُدّ الدولة هي المعادل السياسي (هيجل)، أو الكيان الذي يحاول التقريب بين الطبقات (فيبر)، وهي تصورات تختلف تماما عن الرؤى الماركسية التي ترى في الدولة نتاجا لسيطرة طبقة على أخرى (ماركس)، وتصطدم مع الرؤى اللاسلطوية الكلاسيكية (باكونين) بشدة.

إن ما يطلق عليه تأريخا “دولة الخلافة” يمكننا تعريفه بوصفه كيانا يضم شعبا،ً وتحكمه سلطة تحتكر )أو تدعي( الاستخدام الشرعي للعنف، ولا يوجد فيه التزام واضح ببقعة جغرافية معينة. وهو كيان يصطدم، بشكل صارخ، مع المفهوم الحالي للدولة الحديثة بوصفها تقوم على قطعة جغرافية محدّدة؛ أرضاً، وجواً، وبحراً، وغير قابلة للتمدد، ولكنّ هذا الكيان الذي تبدو أركانه صادمة بالنسبة إلينا الآن، يبدو نموذجيا بالنسبة إلى السياق المحيط به؛ إذ إن الإمبراطوريات كلها توسعية، وقابلة للتمدد، ويغُيِر بعضها على بعض. وقد يكون التوسع -في الخلافة الإسلامية أو في غيرها من الإمبراطوريات- بدافع اقتصادي، أو ديني (الحروب الصليبية)، أو سياسي (إشغال الجند حتى لا يقوموا بانقلابات عسكرية، أو في حال لم أقم بالتوسع سيتم التوسع على حسابي).

وباستقراء التاريخ الإسلامي، والواقع العالمي المعاصر، يتبين أن المركزية لطالما أدّت إلى السلطوية والأتوقراطية والاستبداد، وتعطيل مصالح العباد، وزيادة البيروقراطية، وهذا كله ليس من مقاصد القرآن في شيء. فالعُمران لا يتحقق، بل يستحيل إمكانه، إ لا في حياة أناس أحرار كاملي الانعتاق.

لهذا، فنحن نرفض التصور التاريخي للخلافة الإسلامية، وكذا التنويعات الحداثية كالكونفدرالية (السنهوري) أو الكومنولث (مالك بن نبي)، فالوحدة الثقافية للأُمة هي الأصل والعماد، ولا يجوز أن تكون السلطوية من محددّاتها.

ب- الدولة الحديثة:

تقوم الدولة الحديثة، بالتعريف، على محددّات ثلاثة: الشعب، والإقليم، والسلطة. والمكوّن الأول (الشعب) هو مكوّن سياسي أساساً (خلافا للأمُة التي هي مفهوم ومكونّ ثقافي)، لا يفترض فيه الوحدة أو التجانس الثقافيان، وإنما تتم عمليات التثاقف بين أناس تختلف هوياتهم الدينية ونماذجهم المعرفية. والمسلمون -الآن- يعيشون في إطار هذه الدولة، وفقا لمبدأ المواطنة الذي يعطي الحقوق نفسها، ويلُزمِ بالواجبات نفسها مواطني الدولة بغض النظر عن أيةّ خلفيات ثقافية، بوصف المواطن ملتزماً بالنظام، ودافعاً للضرائب أساساً، وهذا أمر مُفرَّغ من القيم المجردة.

وهنا يكمن الحل أمام الجماعة المسلمة أو إحدى فرقها في أن تخرج من الدولة لتتبنى كيانا آخر يقتصر على المسلمين وحسب، أو أن تحتكر المجال العام وتسقفّه، أو أن تدخل في تنافسية سلمية، في ظل مجال عام مفتوح للجميع. والأوُلى ضرب من المحال، والثانية فاشية، أماّ الثالثة فهي التي نميل إليها ونقف معها.

وبهذا فنحن نتبنى الحل القائم على إرساء دعائم التوحيد واعتباره المشترك الذي ندعو الجميع إليه لإخراج العباد من عبودية أنفسهم أو عبودية الكيانات التي ابتدعوها إلى عبودية الله وحده وإفراده بالألوهية والربوبية والصفات، ثم الدعوة بالتي هي أحسن والحوار الدائم المستمر، لإنماء دعائم المشتركات، وتضييق مسائل الاختلاف. والمشتركات هنا لا بد أن ينُظر إليها بوصفها عملا مشتركا من جميع المكونّات والشرائح للمحافظة على ضروريات المنتمين إلى هذا الكيان وحاجياتهم وتحسينياتهم، واعتبار ذلك هو الأمانة الشائعة لدى الشعب كله، التي ينُتدب للقيام بها وحفظها سُلطات ثلاث يقوم بينها توازن لا يسمح بالإخلال بأيّ جزءٍ من أجزاء هذه الأمانة، فيما يُعرف اليوم بالوسائل الديمقراطية مثل الانتخاب. فصندوق الانتخاب مقبول عندنا مثلما قبَلِ السلف القرعة بوصفها وسيلة للوصول إلى شيء يرتضيه الجميع ويزيل الاختلاف. مع أخذنا بعين الاعتبار الانتقادات الموجهة إلى الديمقراطية التي نظرّ لها علماء كثُر أغلبهم من ذوي الميول اليسارية أمثال: نعوم تشومسكي، وسلافوي جيجيك، وجاك رانسيير. لذا، يلزم أن يتضافر مع (الدمقرطة) تحقيق العدالة الاجتماعية، وللشعوب اختيار الآلية المناسبة لذلك؛ سواء بالنيابية التمثيلية، أو الديمقراطية العمالية، أو المجالسية، أو غير ذلك. وحتى لو استطاع المسلمون أو غيرهم الوصول إلى وسائل أجدى وأكثر فاعلية أو خالية من الأعراض الجانبية فلنا -آنذاك- أن نأخذ بها، والحكمة ضالة المؤمن.

والأمُة المسلمة أمُة قطب[2]، وليست مركزا ينبغي أن تدور حوله باقي الأمم الأخرى كما تستبطن الحداثة الغربية، وإنما هي أمُة تتفاعل مع غيرها في مناخ من الحوار والتنوع والتعددية.

ت- المخلّص:

يمكننا أن نتلمس في كل الإسكاتولوجي (الفكر الأخروي) الخاص بالديانات الرسالية الثلاث (اليهودية، والمسيحية، والإسلام) نظرية “المنتظر”، أو “المخلّص” المهدي، أو المسيح، أو كليهما معاً. ونحن نرى أن القرآن الكريم يرفض هذه النظرية، ولا يعتمدها.

والحقيقة أن النصارى نقلوا عن طريق الثقافة الشفوية فكرة المخلصّ. وعقيدة المخلصّ منتشرة في اليهودية والنصرانية، ومن ثم انتشرت في الجزيرة العربية قبل الإسلام ﴿وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ]البقرة: 89؛ فاليهود يستفتحون، ثم تبعهم النصارى يستفتحون بالمخلصّ القادم الذي هو السيد المسيح، فدخلت إلينا فكرة المخلصّ.

ونقول: لو سلمّنا بفكرة المخلص، فأين ختم النبوة؟! لذا، فإن الفئات المتصوفة -وفي مقدمّتها الشيخ محيي الدين ابن عربي- حينما شعرت أنه لن تستقيم لها قضية الولاية والقول بالقطب والمؤثر وغيره من مصطلحاتها، ومنحها الصلاحيات الموجودة التي أعُطْيِتَ من غلاة المتصوفين إ لا إذا تحايلت على ختم النبوة؛ قالت: “ختمت النبوة التشريعية فقط، أمّا كل عناصر النبوة الأخرى فقد استمرت وجرى تناقلها من ولي إلى آخر حتى قيام الساعة….” وهذا في الفتوحات المكية موجود، والمنقول عنه في بعض كتب التفسير التي تأثرّت به، ومنها تفسير الألوسي في سورة النساء والإسراء والكهف والنجم وغيرها.

وعلى الجانب الآخر كان إخواننا الشيعة. وطبعا التشيع في الحاصل كان التشيع العلوي، يعني محاولة تأييد سيدنا علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه-، وقد كان أبو ذر الغفاري وغيره من كبار الصحابة يرون أن الإمام علي بن أبي طالب في شبابه وفتوته ونشأته في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم قد يكون أقدر على تحمل أعباء الخلافة من عثمان رضي الله عنه فيما بعد.ُ.. فكان هناك ميل أن يكون هو الخليفة عند بعضهم، وسيدتنا فاطمة رضي الله عنها كانت ميالة إلى هذا أيضا؛ً فهو زوجها الذي تربى في حجر أبيها عليه الصلاة والسلام.

والقول بأنه لا تلازم بين نزول المسيح وختم النبوة للنبي؛ لأن الروايات تخبر بأن الأول سوف يكون تابعاً للثاني، وسيصلي -كما جاء في نص الحديث- خلف إمام من المسلمين، ولن يأتي بتشريع جديد ينسخ تشريع النبي صلى الله عليه وسلم؛ كل ذلك هو من قبيل التأويل؛ لأن لديهم أحاديث تقول إنه ينزل على المنارة البيضاء في دمشق، ويجد المهدي الذي يؤم الناس، وحين يشعر المهدي -ولا أدري كيف يشعر وهذا يصلي إماماً وذاك يأتي من الخلف- أن السيد المسيح قادم يتأخر عن المحراب، ويقدمّ السيد المسيح، فيقول له السيد المسيح: “لا… أئمتكم منكم”، ويصلي خلف المهدي، ثم يقتل الدجال إلى آخر ذلك.

هذه الأحاديث بحاجة إلى تصديق قرآني عليها، ثم الهيمنة القرآنية عليها بعد التصديق، والقرآن المجيد حين وصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالشهادة على الناس لم يعُينِّ لمنَ بعده شهيدا فردا، وإنما قال جل شأنه: ﴿لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ البقرة: 143. فالشهادة أُنيطت بالأمُة لا بالفرد، والخيرية التي اتصف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم كرُسّت للأمُة من بعده، فصارت “خير أمُة أخرجت للناس”، وبها أنُيطت الوسطية أيضا، ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ البقرة: 143. فأي محاولة لمصادرة حقوق الأمُة أو الواجبات التي أُنيطت بها تحتاج إلى دليل جزئي من القرآن المجيد، أو من سنُةَّ صحيحه متواترة أو قريبة من التواتر لها في القرآن أصل يشهد لها، وإ لا فإن ذلك يكون افتئاتاً على حقوق الأمُة؛ لأن هناك أحاديث كثيرة أدخلتنا في طريق يسميه علماء الحديث طريق “السابرين.” المهم أننا نحتاج الآن -وعندنا الوسائل الكثيرة – إلى أن نشتغل شغلاً جادّاً على السنُّةَّ، وبمعايير المحدثين نفسها من دون الخروج عنها، مع ضرورة التصديق القرآني؛ فقد أناط الله بالقرآن مهمة التصديق على تراث النبيين كافة ﴿مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ المائدة: 48 . وتراث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينفصل عن القرآن، ولذلك فهو أَولى بأن يُصدِّق القرآن عليه ويهيمن، ومعلوم أننا نعني بالتصديق أن القرآن يعيد الدين كله وكل ما أنُزل على النبيين أو جاء به النبيون إلى حالة الصدق ثم يهيمن عليه.

وما أريد أن ألفت النظر إليه هو أن قضية نزول السيد المسيح ليس عليها من القرآن الكريم دليل، والعقائد اليقينية عندنا كلها قد جاء بها القرآن الكريم: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وآيات القدر في القرآن الكريم أربعون آية وردت في فهم القدر فهما صحيحا سليما.

فهذه هي أركان العقيدة عندنا، وعقيدتنا هي عقيدة قطعية يقينية لا يمكن أن تثبت بالطريقة الظاهرية، ومن ثم فعندنا مذهب واحد يرى أن خبر الآحاد إذا ثبت ولم يعارض القرآن الكريم –وضُعِ له ستة عشر شرطا-ً يقُبل في العقائد، ثم فتُحِ علينا الباب الذي أدخل قضية المهدي والسيد المسيح وعقائد أخرى بلغ مجموعها أكثر من 380 عنصرا اعتقاديا كما في الطحاوية وكثير من كتب علم الكلام، في حين أن عقيدتنا -كما وردت في القرآن المجيد- لا تتجاوز الدعائم الخمس المذكورة.

ثم إن ما ذكره القرآن الكريم عن مسألة سيدنا عيسى -عليه السلام- لا بد أن يفهم في سياق الوحدة البنائية للقرآن كاملا،ً ففي قوله تعالى: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ آل عمران: 55 ، فإن الرفع لا يعني ما هو متبادر إلى الأذهان في هذه المسألة تحديداً من رفعه حيّاً إلى السماء؛ فالرفع في القرآن الكريم جاء بمعنى آخر، مثل قوله تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ المجادلة: 11، وقوله تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ فاطر: 10، وقوله عزّ وجلّ: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ الشرح: 4 وقوله سبحانه: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾ مريم: 57. إذن، نحن أمام مفهوم قرآني اسمه “الرفع”، وهذا المفهوم موجود وشائع في معظم السور، وليس فيه ما يشير إلى رفع حسي… فَشُبَهُ الحياة والرفع هي شُبَهٌ نصرانية؛ لأن النصارى انقسموا إلى مذاهب عدةّ في قضية السيد المسيح؛ فمنهم منَ قال: صُلِب وانتهى، ومنهم قائل: صُلِب واستطاعت مريم المجدلية وأمه أن ترشيا الحرس الواقف على القبر لكي يترك مجالا لتنفسه داخل القبر، فترك فتحة يتنفس منها السيد المسيح، وقدمّتا رشوة أخرى لكي ينصرف الحراس عن حراسة قبر السيد المسيح فانصرفوا، فجاءت مريم المجدلية وأمه، وأخرجتا السيد المسيح، ثم تناول عشاء الفصح مع طلابه الذين كان معظمهم في شك أنه السيد المسيح، فكان بعض يلمسه، وبعض آخر يسأله، وذلك حسب رواياتهم هم… ثم تزوج بعد ذلك مريم المجدلية، وأنجب منها أطفالا، وعاش حياة عادية إلى أن مات.

ومنهم مَن قال: شُبِّه لهم فاشتبهوا بالواشي نفسه… الله أراد أن يخزيه بأن ألقى عليه شبه السيد المسيح فقتُلِ هو، وهرب السيد المسيح… لقد نجا في كل الأحوال؛ سواء أخذنا بالرواية النصرانية الأولى، أو الرواية الأخيرة، فهو عاش حياة عادية ثم مات… هذا عند النصارى. أمّا نحن فقد اشتبهت علينا كلمة “رافعك”، وهي بحسب فهم الكثيرين تعني أنه رفُعِ إلى السماء حيّاً لينزل مرة أخرى، وفي هذا تناقض… فقد ورد في نفس الآية التي جاء فيها مصطلح الرفع: “إني متوفيك”، وهم انشغلوا بالشبيه، وصلبوا الشبيه وقتلوه، وهو هرب… فلماذا يرفعه حيّاً؟ لا شيء يستوجب الرفع! وما الداعي إلى رفعه؟ لا شيء… وإذا كان رفعاً فهذا يناقض “شُبِّه لهم”. إذن، هم أتوا به للصلب والله رفعه!

حتى إنهم لم يكتشفوا التناقض بين أقوالهم مع آي القرآن الكريم؛ مع نفس الآية التي يستدلون بها على أنه شُبِّه لهم وهو نجا؛ إذ لا داعي للرفع بالمعنى الذي يفهمونه، فهو قد اختفى عن الناس في مكان ما، وقيل إنه اختفى في مصر، ثم تزوج وأنجب ابنين أو ابناً وبنتاً إلى آخره، ثم توفاه الله، وعاش حياة عادية؛ لأنه لم يدعُ بعد ذلك.

وهذا التناقض موجود في روايات الإنجيل، وفي أحاديث واردة عندنا في بعض أقوال المفسرين. لذا، يجب أن نحل هذا التناقض: “متوفيك ورافعك إلي”؛ رافعك روحاً والأرواح كلها تُرفع إلى الله تعالى، فمنها منَ يوضع في الجحيم، ومنها منَ يوضع في عليين ﴿كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ المطففين: 20-21، فرفعه -جلّ شأنه- في الآية الكريمة رَفْعٌ – لروحه. والدليل على ذلك هو ورود مصطلح “الرفع” في القرآن الكريم بهذا المعنى؛ فالكل يُرفع بهذه الطريقة: الشهداء، والعمل الصالح، وغيرهم… فلا بدّ -إذن- من تحرير مفهوم الرفع، وإدراج جزئية رفع السيد المسيح في هذا المفهوم. أمّا آية سورة الزخرف: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا﴾ ففيها خطاب من رسول الله محمّد بن عبد الله إلى الناس يقول لهم إن الوحي الذي أنزله الله عليّ وأوحاه إليّ علمٌ للساعة؛ لأنه ليس هناك نبي بعدي، ولا رسول ودليل على قرب قيامها، فاتقوا الله أيها الناس واتبعوني… فكيف استطاع الاختراق الديني والثقافي أن يجعل من خطاب صادر عن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم دليلا على عالمية رسالة السيد المسيح، وهي رسالة قومية خاصة إلى بني إسرائيل ﴿وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾؟

ولولا أن الحديث عن السيد المسيح ونزوله الثاني ربُط بقضية الحاكمية، والزعم بأنه سيحكم ألف عام، والادعاء بأن المهدي سيحكم عدةّ سنين ما تعرضّنا لهذا الأمر في بحث مخصص لدراسة موضوع الحاكمية الإلهية.

الخاتمة

شهدت العقود القليلة الماضية تداول مدارس فكرية متنوعة مفهوم “الحاكمية الإلهية”. فبعضها تناولت المفهوم كما تتناول الشعر بحيث يكفي المتناول تحليله ثم تركيبه ليكتشف معناه، وبعضها الآخر تناولته بوصفه واحدا من أهم مقاصد الشريعة يمكن عدَهَّ أصلا يفرعّ عليه الأحكام والفروع، إلى غير ذلك من أنواع التناول التي لم تزد المفهوم إ لا غموضاً.

ووجدنا أن مفهوم الحاكمية الذي تبنته فئات سياسية معاصرة كثيرة تحولَّ من مفهوم إحيائي تجديدي قادر على إعادة بناء وحدة الأمُة وترميم ما بلَيِ من قواعدها إلى مفهوم زادها اختلافا وفرُقة وتفككُّا،ً وأحدث فيها آثارا سلبية.ً وجرت عملية نسيان أو تناس للقيم القرآنية العليا الأساسية القائمة على التوحيد والتزكية والعمران والأمُة والدعوة، استنادا إلى نبوة خاتمة، وشريعة عامة، متصفة بالتخفيف، ورفع الحرج، ووضع الإصر والأغلال، وشاملة وعالمية، موحدّة في رؤيتها ومعتقداتها وأهدافها، ومقاصدها؛ لتمدُ العالم بأحوج ما يكون إليه، وتقدمّ له المُثُل التي كان يقدمّها الأنبياء ليسُتأسى بها بوصفها أمُة قطبا متصفة بالخيرية والوسطية، قادرة على القيام بواجب الشهادة على الناس. ومن هنا بدأنا نشهد كارثة أخطر بكثير من كوارث الصليبيين والتتار، تتمثلّ في استقواء أبناء الأمُة المسلمة بأعدى أعدائهم على إخوانهم، وذلك نتيجة الاختلاف حول هذه المفاهيم، وأصبح المسلم يخرج من دينه بكل سهولة من دون أن يشعر أنه قد غادر موقعه في الإسلام، ويؤمن بأن العلمانية وقاية للأمُة من القتل والاضطراب؛ لأنه ظن -أو جعلوه يظن- أن الإسلام لا يأتيه إلا بمزيد من الاختلاف والانشقاق، وتأليب هذا الفصيل على ذاك، والتقاتل والتحارب، ونصب المفخخات، وتفجير الأبرياء، وتقتيل الأطفال والنساء من دون تمييز؛ نتيجة اختلاف في الموقف السياسي، أو المذهبية الفكرية، أو تضارب في المصالح، أو تناقض في الانتماءات، أو ما إلى ذلك.

ونحن في هذه الدراسة لا ندعي تناولنا الموضوع من جوانبه كلها، إنما أثرنا الإشكالية، وطرحنا بعض الأسئلة لعل ذلك يستحث الأذهان على دراسة هذا المفهوم وإعادة النظر فيه من وقت إلى آخر، ولكن في إطار حاكمية القرآن الكريم، لا في أي إطار آخر.

الد. طه جابر العلواني

من مؤلفه ” الحاكمية والهيمنة: نحو إعادة بناء مفهوم الأمة والدولة والدعوة”
جميع الحقوق محفوظة – للمعهد العالمي للفكر الإسلامي(*)
الطبعة الأولى 1437 هـ / 2016 م


[1] انظر مناقشة الفخر الرازي لقوله تعالى: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ ]النساء: 115 إذ ناقش الاستدلال بهذه الآية على “حجيَّة الإجماع” مناقشة مستفيضة: – الرازي، فخر الدين. المحصولفيعلمأصولالفقه، تحقيق: طه العلواني، بيروت: مؤسسة .66- الرسالة، 1992 م، ج 4، ص 35

[2] انظر تفصيل ذلك في: المدخل المنهاجي لدراسة النظم السياسية العربية – منى أبو الفضل، القاهرة: دار السلام، .387 ، 2013 م، ص 323
(*) المعهد العالمي للفكر الإسلامي: نشأت فكرة تأسيسه في مؤتمر عُقد في مدينة لوقانو (Lugano) بسويسرا سنة 1977، ضم ما يقارب الـ30 من قيادات الأمة الإسلامية الفكرية والحركية، وهو المؤتمر الذي أفرز وأنتج المعهد العالمي للفكر الإسلامي الذي انطلق نشاطه بفرجينيا من الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1981 برئاسة المرحوم إسماعيل راجي الفاروقي.


لمزيد الاطلاع حول هذا الموضوع:

مراجعة لكتاب الحاكمية والهيمنة لطه جابر العلواني – بقلم: جميل أبو سارة

السيرة الذاتية للد. طه جابر العلواني

من مواليد العراق عام 1354ﻫ / 1935م.
• دكتوراه في أصول الفقه من جامعة الأزهر 1392ﻫ / 1973م.
• أستاذ سابق في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
• شارك في تأسيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي عام 1401ﻫ / 1981م، وترأسه بين عامي 1986-1996م. وهو عضو في مجلس أمنائه.
• عضو مجمع الفقه الإٍسلامي الدولي بجدة، ورئيس المجلس الفقهي لأمريكا الشمالية.
• بلغت مؤلفاته الصادرة بعد عام 2000م ثلاثة وعشرين كتاباً منها:

  • لا إكراه في الدين، مكتبة الشروق الدولية بالقاهرة، 2005م.
  • إصلاح الفكر الإسلامي: مدخل إلى نظام الخطاب في الفكر الإسلامي المعاصر، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2009م.
  • إشكالية التعامل مع السنة النبوية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2014م.
  • الحاكمية والهيمنة: نحو إعادة وبناء مفهوم الأمة والدولة والدعوة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2016م.
  • من أدب الاختلاف إلى نبذ الخلاف، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2017م.
    • ترجمت كثير من أعماله إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والتركية والأوردية والماليزية.
    • توفي رحمه الله بتاريخ 4 آذار 2016م.
المهدي بن حميدة

المهدي بن حميدة

العمر 55 سنة - متزوج وأب لثلاثة أطفال (بنتان وولد) - مقيم بسويسرا منذ 9 ماي 1992.
كاتب ومتابع للشأن السياسي والعربي والإسلامي - مدير شركة خاصة في الطباعة والتصميم والتوزيع.

أظهر كل المقالات