fbpx

أبو القاسم الشابي من منظور محمد الطاهر ابن عاشور

أبو القاسم الشابي

عاش أبو القاسم الشابي عمرا قصيرا لم يتجاوز سبعا وعشرين سنة، في بيئة عائلية محافظة مطمئنة منَعَّم عليها لا تعرف البؤس ولا الحرمان، ونشأ على الثقافة الإسلامية العربية بجامع الزيتونة، فأتقن القرآن والعربية وتمرّس بالأدب فغاص في الدراسة والمطالعة، ثم ظهر نبوغه الشعري وهو ابن خمسة عشر عاما، فابتدأ ينظم الشعر الجيّد على الطريقة المألوفة في مثل البلاغة العربية في الأغراض المطروقة، وعنى بمطالعة الدراسات الاستعراضية للآداب الغربية والنصوص المنقولة من تلك الآداب إلى اللغة العربية ولم يكن يحسن لغة أخرى.

وحبّبت إليه العزلة والانكماش حتى صار محيط حياته محيطا نظريا بحتا بين المطالعة والتأمّل والحديث النفسي، ونمت فيه بذلك روح الملاحظة والاعتبار حتى تربّت فطرته العقلية على المنهج الفلسفي فكان ينظر إلى الوجود من خلال المناظر الطبيعية، وإلى المجتمع الإنساني من خلال الصّور المرتسمة منه في مادة مطالعته وتأملاته، وفيما يجد في نفسه من الحقائق الشعورية، ودفعت به غريزته الفنية إلى تصوير تلك الانفعالات على نحو المثل الأعلى الذي يتطلبه لفنه فوجد الطرائق الأدبية التي كان سائرا عليها قاصرة عن الوفاء بما يريد فضاقت نفسه بفيضها الفني ضيقا ولّد فيها ثقلا وانقباضا ووحشة سوداء من معاناة طرق الإفصاح عن مكنوناتها، حتى ضاق ذرعا بالحياة –وما الحياة عنده إلا الحياة الأدبية- واصطبغت فلسفته بصبغة التشاؤم المظلم.

وتداعى كيانه الجسمي بطول الاحتباس واستفحال الألم الباطني، فإذا جراثيم السلّ تهجم فتستقرّ بكلتا رئتيه، وإذا شبح الموت منتصب أمامه، هناك صممت نفسه على التخلّص من أوقارها بتمهيد مسلك تنفذ منه إلى التعبير عن مشاعرها على النحو الذي يتطلب، فانبعثت أمام عينيه صور من الأدب الغربي الذي تعرّف إليه من خلال المترجمات، وأنس بما فيها من صور قاتمة وروح متشائمة. ونقل نفسه بدافع التقمّص الشّعوري إلى الحياة الغربيّة التي لم يعرفها ولم يقع بصره على ألوانها، فالغاب والضّباب والرّاعي النّافخ في نايه والثّلج كلّها أمور لم يعرفها الشّابي ولم يعش في دائرتها، ومع ذلك كانت أكثر الألفاظ دورانا في شعره، فكان استعماله إياها أقرب إلى الاستعمال الرّمزي منه إلى الاستعمال التّمثيلي والمجازي، ووجد من شعر جبران خير رائد له في هذا الطّريق ومساعد على سلوكه فتعلّق به حتى تخرّج على منهجه وامزج بروحه فأتى بالتأملات العجيبة العميقة في العواطف الإنسانية وأسرارها والوجود وحقائقه وأظهر التلاقي المتحقّق في ذاته بين الحياة المودعة والموت المتوقّع فمزج الحياة بالموت وركّب من مزيجها وحدة الوجود.

ولم تستعص اللّغة العربية ومناهجها الأدبيّة عن محاولاته المرهقة، بل لانت له كما يلين الصّخر لنحت الفنّان، فجاءت قوالب شعره رقيقة صافية محكمة النّسيج رائقة النّظم شيّقة التّعبير معتدلة المقاطع ثريّة من طلاوة الفصاحة ورونق البديع، بحيث أن أشدّ النّاس إنكارا لمذهبه في تجديد المعاني والأغراض لا يقدر أن يغضّ من براعته العجيبة في إتقان الصّناعة البلاغيّة التي هي مقياس الجودة المشترك بين المشارب المتباينة.

فلا شك أن أبا القاسم الشابي هو آية الشعر في هذا الطور، وأن منهجه السائر على خطة محددة مدروسة مرتبطة بنزعته التجديدية العامة، هو أكمل مثال للمنهج الشعري الجديد.

من كتاب “الحركة الأدبية والفكرية في تونس” للأستاذ محمد الفاضل ابن عاشور

المهدي بن حميدة

المهدي بن حميدة

العمر 55 سنة - متزوج وأب لثلاثة أطفال (بنتان وولد) - مقيم بسويسرا منذ 9 ماي 1992.
كاتب ومتابع للشأن السياسي والعربي والإسلامي - مدير شركة خاصة في الطباعة والتصميم والتوزيع.

أظهر كل المقالات