fbpx

من حكم الأنبياء إلى حكم الملوك لدى بني إسرائيل

جبل صهيون بالقدس حيث مقام النبي داود

يقول إسماعيل الفاروقي في “الملل المعاصرة في الدين اليهودي” ص 12-13 “فبينما استخرج أجدادهم الكتاب المقدس من حياتهم وواقعهم التاريخي، أصبحوا الآن يستخرجون حياتهم وواقعهم من كتاب القانون، وصحب هذا الرفع من مكانة القانون في الدين اليهودي تدوين معظم أسفار الكتاب المقدس لاسيما الأسفار الخمسة الأولى المسماة بالـ”Pentateuque” واعتبارها كتابا مقدسا… إلا أن النتيجة الملازمة لهذا الرفع أن أصبح بعدها القانون مُطلقًا، فلطالما أن القانون هو إرادة الله مجسمة في أوامر وتعليمات، فالقانون إذا مطلق وأبدي كالله نفسه لا يجوز تغييره ولا تبديله، وكان من جراء هذا أن أُقفِل باب النبوة في بني إسرائيل، إذ أن إرادة الله كلها هنا تُقرأُ وتُعلَّم برمتها في هذا القانون، فما الحاجة إلى أنبياء آخرين؟ وما عساهم يأتون به (هؤلاء الأنبياء) من عند الله غير هذا الذي عندنا؟ لذلك أصبح التطلع اليهودي لا إلى نبئ يأتي بالإرادة الإلهية كما من قبل بل إلى زعماء أو شبه أنبياء ينفذون القانون”.

إن هذا السياق من التحليل ينسجم مع ما طالب به بنو إسرائيل أحد آخر أنبيائهم (وَهَذَا النَّبِيءُ هُوَ صَمْوِيلُ)، وجاء ذلك مفصّلا في سورة البقرة، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247)

وَهَذَا الْمَلِكُ هُوَ الَّذِي سُمِّيَ فِي الْآيَةِ طَالُوتَ وَهُوَ شَاوُلُ وَطَالُوتُ لَقَبُهُ، وَهُوَ وَزْنُ اسْمِ مَصْدَرٍ مِنَ الطُّولِ، عَلَى وَزْنِ فَعَلُوتٍ مِثْلَ جَبَرُوتٍ وَمَلَكُوتٍ وَرَهَبُوتٍ وَرَغَبُوتٍ وَرَحَمُوتٍ، وَمِنْهُ طَاغُوتٌ أَصْلُهُ طَغَيُوتٌ فَوَقَعَ فِيهِ قَلْبٌ مَكَانِيٌّ، وَطَالُوتُ وُصِفَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي طُولِ قَامَتِهِ، وَلَعَلَّهُ جُعِلَ لَقَبًا لَهُ فِي الْقُرْآنِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى الصِّفَةِ الَّتِي عُرِّفَ بِهَا لِصَمْوِيلَ[1]، فانتقل الحكم لدى بني إسرائيل، وذلك على لسانهم وبطلبهم كما ذكر الله ذلك في الآية، انتقل من حكم آخر أنبيائهم وهو صَمْوِيلَ إلى الملك شَاوُلُ وَهو طَالُوتُ، وكعادة بني إسرائيل أنهم يحتجون دائما على حكم الله، فكما احتجوا على الله في قصة البقرة التي أمروا بذبحها وبينوا في تلك القصة المفصّلة قساوة قلوبهم وفساد اخلاقهم، احتجوا على الله كذلك في اختيار الله لطالوت ملكا عليهم (قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ)، فأجابهم الله على لسان نبيه (قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ).

مواصلة لأحداث هذه الواقعة التاريخية قال تعالى: (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ۚ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ۚ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۚ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) البقرة

ظهر في عهد طالوت الخليفة داوود، وكان بارعا في القتال، فقتل داوود جالوت (Golyath)، إذ بمجيء داوود عليه السلام، وكان ذلك سنة 1025 ق م، تحولت الخلافة بين بني إسرائيل من حكم الأنبياء إلى حكم الملوك الخلفاء، قال تعالى (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) سورة ص

التلمود

يتألف التلمود من مجلدات عديدة ضخمة مضت سنون طويلة، حوالي ألف سنة، في تأليفها وجمعها وتنقيحها، وتتحدث هذه المجلدات عن كل شيء، من أهم المبادئ الميتافيزيقية والدينية الكبرى إلى أدقّ وأتفه مراسم الزراعة والطبخ والزينة، والتلمود يعكس لنا التفكير والواقع اليهودي عبر القرون العشرة التي نشأ وتم تأليفه فيها[2]. يمكن القول أن التوراة هي التراث المكتوب عن موسى، وأما التلمود فهو التراث الشفوي المنقول جيلا عن جيل.

ويوجد تلمودان التلمود الفلسطيني (جُمع سنة 390 للميلاد) والتلمود البابلي (أوائل القرن السادس للميلاد)، وتقسم مواد التلمود، سواء الفلسطيني أو البابلي، إلى “حلقا وهجادا”، ويعني بالأولى المواد المنظمة للحياة اليهودية، علمانية كانت أم دينية، شخصية أم مجتمعية، ويعني بالثانية المواد القصصية والتاريخية والأدبية التي جاءت مفسرة أو ممثلة أو مجسمة لأحكام “الحلقا”[3].

وبشيء من الترجيح، يمكن القول أن اليهود كتبوا التلمود بعد مجيء المسيحية بثلاثة قرون أو يزيد، وبما أن المسيحيين جمعوا كتابهم وقسموه إلى عهدين، العهد القديم وهو نص الأسفار قبل مجيء السيد المسيح (يحتوي على 46 سفرا)، وهو يشترك مع العهد القديم لليهود ويشمل تاريخ الكون والخلق والأنبياء، والعهد الجديد وهو نص الأسفار بعد مجيء السيد المسيح ويشمل تعاليم المسيحية، فكتب اليهود التلمود للتميُّز عن المسيحيين في ديانتهم بعد الاضطهاد الذي لحقهم من الرومان والمسيحيين عموما.

جبل صهيون بالقدس حيث مقام النبي داود[4]

جبل صهيون، الذي يقع في الجزء الجنوبي الغربي لسور القدس، ضمن مسارات تعبق بالتاريخ من قمته إلى سفحه، فارتفاع قمته يصل إلى 760 مترا، وسفوحه تمتد شمالا حتى باب الخليل، وغربا حتى وادي مأمن الله، وجنوبا حتى وادي الربابة، وشرقا حتى وادي قدرون قريبا من باب المغاربة. لا يخلو متر مربع فيه من أثر تاريخي، فهو الجبل الذي حُكي عن رسوخه منذ عهد اليبوسيين، وأقدم توثيق خطي له كان في أسفار التوراة التي ذكرت أن الملك النبي داود عليه السلام أخذ قلعة صهيون من اليبوسيين. ويُعلق الباحث المقدسي إيهاب الجلاد على ذلك قائلا “ذكر الجبل بمسماه في التوراة يعني أنه موجود قبل بني إسرائيل، وما جاء كان وصفا لمكان قائم من الأصل”[5].

أصل التسمية

تتفاوت التفسيرات حول أصل تسمية “صهيون” لكن الجلاد يؤكد أن الكلمة وصف للجبل وليس لها أي ارتباط سياسي أو تاريخي، مضيفا أن “صهيون” أحد أسماء مدينة القدس قديما، وأرجح التفسيرات تتحدث عن جذر فعل ثلاثي (صهو) والذي أضيفت له واو ونون للتصغير أو دلالة المكان، وتحوّر الفعل عبر الأزمان وعلى الألسن، حاملا معاني شتى كالمكان العالي الحصين، أو الأرض الجافة.

نبعت حساسية العرب تجاه هذه التسمية بسبب دلالتها السياسية الحديثة، مع أن الحركة الصهيونية هي من اقتبست الاسم لربط نفسها بالقدس وجبل صهيون لا العكس. ويطلق على الجبل أيضا اسم جبل النبي داود، ومثله أيضا يسمى أحد أبواب سور القدس الذي يتقاطع مع قمة الجبل، والذي بقي مغلقا بين عامي 1948 و1967 حتى احتلال شرقي القدس، لأنه كان يطل مباشرة على شق القدس الغربي.يقول إيهاب الجلاد “إن الصليبيين ادعوا وجود قبر النبي داود فوق الجبل وبنوا فوقه آثارهم، والراجح أن النبي داود دفن في القدس، لكن لا تأكيد حتميا حول موقع قبره، والثابت أن الأثر على جبل صهيون هو مقام النبي وليس قبره”.

اهتم المسلمون المماليك بجبل صهيون وبنوا مجمعا ضخما فوق الآثار الصليبية، وكانت ملكية المكان حينها تتنقل بين المسلمين والنصارى حسب سياسة الحاكم المملوكي. لكن السلطان العثماني سليمان القانوني ثبت ملكية المكان للمسلمين في القرن الـ 16، وأولاه اهتماما خاصا، فوسع وعمّر محيط المقام، وأقام “كلية النبي داود” التي ضمت مسجدا ومدرسة ومطبخا وغرفا فسيحة لإيواء الضيوف.

والحظ الأكبر على جبل صهيون كان للطوائف المسيحية المختلفة، لاحتضانه عدة معالم دينية تنسب لأحداث مختلفة.

تهويد الجبل

احتلت العصابات اليهودية الجبل عام 1948، وسُيطر على مسجد ومقام النبي داود وحُول إلى كنيس، وحرف اتجاه المحراب من البيت الحرام إلى موقع المسجد الأقصى، وأبطل المسجد الموجود في غرفة العشاء الأخير (مع الإبقاء على اتجاه المحراب) أما المسجد الثالث فأغلق تماما.

كما حاول الاحتلال تهويد الجبل لطمس المعالم الإسلامية والمسيحية البيّنة فيه، فبنى كُنُسا عديدة مثل الكنيس السفاردي، ومدارس دينية مثل الشتات وهشيبانو، وبنى قبوا للمحرقة (الهولوكوست) ومقبرة سامبوسكي، وزُجت النجمة السداسية وأعلام الاحتلال في كل موضع داخل جبل صهيون الذي يملؤه طلاب المعاهد الدينية اليهودية، ورواد الكُنس وأفراد شرطة الاحتلال، لكن التاريخ المتأصل منذ آلاف السنين على هذا الجبل يفصح للرائي عن أصل الحكاية وأهل الجبل.


[1] تفسير “التحرير والتنوير” – سورة البقرة آية 247 – ص489

[2]  الملل المعاصرة في الدين اليهودي، ص 16 – إسماعيل راجي الفاروقي

[3] الملل المعاصرة في الدين اليهودي، ص 20 – إسماعيل راجي الفاروقي

[4] مقال ورد على موقع “الجزيرة نت” بتاريخ 12 جوان 2022 تحت عنوان “دفنت فيه الشهيدة شيرين أبو عاقلة ما تود معرفته عن جبل صهيون بالقدس حيث مقام النبي داود”، نقلته هنا بمختصر للإفادة والاستفادة ولارتباطه الوثيق بموضوع بحثنا.

[5] إيهاب الجلاد، باحث ومتخصص في شؤون القدس والمسجد الأقصى المبارك، يعمل مرشدا سياحيا في المسجد الأقصى منذ عام 2008، وهو مؤلف كتاب عن المسجد الأقصى تحت عنوان “معالم المسجد الأقصى تحت المجهر”، وقدم خلال هذا الكتاب تصحيحا لكثير من المفاهيم الخاطئة عن بعض معالم المسجد.

المهدي بن حميدة

المهدي بن حميدة

العمر 55 سنة - متزوج وأب لثلاثة أطفال (بنتان وولد) - مقيم بسويسرا منذ 9 ماي 1992.
كاتب ومتابع للشأن السياسي والعربي والإسلامي - مدير شركة خاصة في الطباعة والتصميم والتوزيع.

أظهر كل المقالات